«الانفتاح».. وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية.. إرهاق الصناعة السورية.. خلخلة الميزان التجاري.. فوضى الأسواق!
يكاد لا يختلف اثنان على أن الانفتاح الاقتصادي غير المضبوط والمتسرع في الوقت عينه، قد أثّر سلباً على الاقتصاد السوري، حتى وإن اختلفوا في تقييم وتحديد درجة تأثيراته على هذا القطاع أو ذاك، وهذا الاعتراف ليس وليد الرغبة المحضة لدى البعض، لأن اعترافهم بهذا التأثير المواكب لعملية الانفتاح هو اعتراف بفشل الركيزة الأساسية للسياسات الاقتصادية خلال السنوات السابقة، وبالتالي، فإن الاعتراف جاء نتيجة منطقية للأرقام التي أكدت الإغراق على حساب المنتج الوطني، وما رافقه من انهيار الصناعة الوطنية، وتضرر المنتج الزراعي السوري المترافق مع انهيار الميزان التجاري في سورية، وغياب الرقابة عن السلع في الأسواق في ظل غياب فاعلية القانون الاقتصادي أولاً، وقبل كل شيء لغياب فاعليته، وهذه كلها مؤشرات على التأثيرات السلبية للانفتاح والتي لا يمكن إنكارها..
«تشريح» الميزان
أول ما يخطر في بال أي باحث أو متحدث عن التأثير السلبي لعملية الانفتاح الاقتصادي هو الميزان التجاري، والذي يرتبط ارتباطاً عضوياً بتراجع القطاع الزراعي، لكونه يشكل نحو ربع الصادرات السورية، وفي أسوأ الأحوال 20% من هذه الصادرات، وهذا بلغة الأرقام، يتراوح بين 100 – 150 مليار ليرة سورية من الصادرات..
7.5 مرة تضاعفت خسارة الميزان التجاري السوري بأربع سنوات، فعام 2003 كان العام الأخير الذي حقق خلاله الميزان التجاري فائضاً مالياً خلال العقد الأخير بقيمة 28 مليار ليرة سورية، لتبدأ بعدها مسيرة العجز في ميزاننا التجاري، والتي فاقت في نسبة تراجعها كل التوقعات، حيث قفز هذا العجز من 31 مليار ليرة في العام 2006 إلى نحو 226 مليار في العام 2009 حسب آخر أرقام المكتب المركزي للإحصاء، وللبحث عن أسباب التراجع التي تصيب ميزاننا التجاري، كان لا بد من البحث في مكونات صادراتنا بشكل أساسي، وتحديد نسب كل منها، والوقوف من المتراجع منها وتحديده، للوصول بعدها إلى تحديد أسباب هذا التراجع ومكوناته..
«أنين» متصاعد!
لا تزال المنتجات المعدنية، والنباتية، ومنتجات صناعة الأغذية، ومواد النسيج ومصنوعاتها، حتى الآن عماد الصادرات السورية، إذ تشكل ما يتراوح بين 70 – 90% من الصادرات السورية بحسابات القيمة والكم، إلا أن الدراسة المتأنية للميزان التجاري، تؤكد أن صادراتنا من المنتجات النباتية هي الأكثر تراجعاً بين جميع مكونات الصادرات السورية، حيث انخفضت نسبة مساهمتها في الصادرات السورية بنسبة 7% (بمقدار الثلت) من الناحية الكمية في العام 2009، ولكن وللمفارقة فقد ارتفعت نسبة مساهمتها بالقيمة في الصادرات بنسبة 1% في العام ذاته على الرغم من هذا التراجع بالكم، وهذا ناتج عن ارتفاع أسعار المنتجات النباتية والزراعية عالمياً فقط.. علماً أن تراجع كمية المنتجات النباتية بات سمة أساسية لقطاعنا الزراعي وصادراتنا على حدٍ سواء، ولم يقتصر على عام واحد فقط، حيث تراجعت بمقدار 4% في العام 2007، وبأكثر من 11% في العام 2008 من الناحية الكمية بالطبع.
وفي المقابل، شهدت وارداتنا الكمية من المنتجات النباتية ارتفاعاً بنسبة 7% خلال الأعوام الأربعة السابقة، وذلك من 16% في العام 2006 إلى أكثر من 23% قياساً بكمية المستوردات الإجمالية في العام 2009، كما ارتفعت وارداتنا النباتية بمقدار الضعف قياساً بقيمة المستوردات الإجمالية، وذلك من 6.30% في العام 2006 إلى ما يقارب 12.25% في العام 2009، وهذا يؤشر دون شك إلى أنين المنتجات النباتية قبل إعلان وفاتها بعد فترات زمنية ليست بالبعيدة، لأن هناك تراجعاً كبيراً في حجم الإنتاج الزراعي، ولكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن، من هو المسؤول عن هذا التراجع؟! وإذا كانت الأحوال المناخية هي السبب دائماً، كما يبرر أحياناً تراجع الإنتاج الزراعي عند البعض.. وإذا كان هو المسبب الوحيد، فأين التخطيط والدراسات الزراعية التي تجنبنا هذه التراجعات والأزمات الحاصلة والأوبئة؟! وإلى متى سنسمح لزراعتنا أن تبقى رازحة تحت سيف الأحوال المناخية؟! وإذا كان العام 2008 استثنائياً بقلة أمطاره.. فأي تبرير يمكن أن يطلقه المدافعون عن هذا التراجع كماً ومساهمة في الصادرات السورية على نحو نصف عقد من الزمن...
الحديث عن شجون القطاع الزراعي لا ينتهي بانخفاض الصادرات، فالأرقام تشير إلى تراجع نسبة العاملين في هذا القطاع إلى 20% من الأعداد الإجمالية للعاملين في سورية الآن مقارنة بـ25% في نهاية الخطة الخمسية التاسعة، بالإضافة إلى تراجع حصة الزراعة في الناتج المحلي في سورية من 25% في العام 2006 إلى 20.4% بالعام 2007 إلى 14.7% عام 2008 قبل أن يظهر بعض التحسن عام 2009، كما تراجعت مساهمة القطاع الزراعي في الصادرات السورية من 20% إلى 13% من حصته في الصادرات الإجمالية، وهذا التراجع هو جزء من تأثير عملية الانفتاح الاقتصادي على القطاع الزراعي، وما واكبها من إغراق لبعض المنتجات الزراعية المستوردة على حساب منتجنا الزراعي الوطني..
لنأخذ العبر
الزراعة في ألمانيا حسب أرقام العام 2008 لا تشكل سوى 1% من الناتج المحلي، ويعمل بها فقط 2.4% من السكان، ومع ذلك، فإن ألمانيا تغطي 90٪ من احتياجاتها الغذائية، وهي ثالث أكبر البلدان الأوروبية في الإنتاج الزراعي بعد فرنسا وإيطاليا، حيث تنتج البطاطا، القمح، الشعير، السكر، الفواكه، .. إلخ، فهذه المساهمة المتواضعة للزراعة في الناتج المحلي بألمانيا جعلها بمنأى عن شر الاستيراد المكلف من المواد الزراعية، ألا تستحق التجربة الألمانية الوقوف عندها والاستفادة منها؟! أم أن الاستفادة تتركز على التجارب غير الناجحة أصلاً؟!
ما قيل على ألمانيا ينطبق على أغلب البلدان الأوروبية التي تعيش اليوم حالة من الاكتفاء الذاتي في الإنتاج الزراعي، على الرغم من أن تدني نسبة الأيدي العاملة بالزراعة، والتي لا تتعدى 8%، كما أن مساهمة القطاع الزراعي لا تتجاوز 4.2% في هولندا، وما يقارب 4.6% في فرنسا، وعلى الرغم من ذلك، فإن أوروبا تشهد أحياناً زيادة وفائضاً في الإنتاج الزراعي مما يؤدي لإتلاف المحاصيل الفائضة للحفاظ على أسعارها، فلنأخذ العبر إذا ما أردنا الاستفادة من التجارب الناجحة، ولنتعلم كيف نحقق الاكتفاء الذاتي من ناتج زراعي لا تتعدى مساهمته 5%، عوضاً عن اللجوء والسعي للاستيراد والتي نعيشها اليوم رغم مساهمة زراعتنا بنحو 15% من الناتج المحلي الإجمالي؟!
للصناعة نصيب أيضاً
لا يمكن التعامل مع قطاع الصناعة والتعدين في سورية كسلة واحدة في مجال المساهمة، وذلك لهيمنة القطاع الاستخراجي على نسبة مساهمة الصناعة، والذي تصل حصته إلى 80% من الناتج المحلي الإجمالي للقطاع الصناعي، ولكن تقرير الصناعة العربية 2009-2010، الصادر عن المنظمة العربية للصناعة والتعدين يبيّن أن نسبة مساهمة الصناعة التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي انخفض من 7.9٪ عام 2001، إلى 5.8٪ عام 2008، وهذه المساهمة لا تتناسب مع الدور المحوري لهذا القطاع، والمتمثل في ضرورة تحقيق التنمية الشاملة، على الرغم من أن حجم الاستثمارات في الصناعة التحويلية خلال السنوات الأربع الماضية بلغ 400 مليار ليرة، حسب تقرير سابق لاتحاد نقابات العمال.
بينما ارتفعت مساهمة القيمة المضافة للصناعة الاستخراجية السورية من 18٪ إلى 25.5٪ عام 2008، بمعنى الارتفاع من 3.8 مليار دولار إلى 13.7 مليار دولار، ويعود ذلك لارتفاع أسعار النفط عالمياً عاماً بعد أخر ولأكثر من ثلاثة أضعاف خلال السنوات العشر السابقة، في الوقت الذي لا تتعدى فيه مساهمة قطاع الماء والكهرباء 3% من الناتج المحلي للقطاع الصناعي والتعدين..
فالصناعة التحويلية، هي عبارة عن عملية تحول المواد الأولية إلى منتجات نهائية أو منتجات نصف مصنعة، كالنسيج، والقطن، وهذه الصناعات التحويلية لدينا تقسم إلى أربعة مكونات، تتقاسم مرابعة (25%) حجم مساهمتها في الصناعة التحويلية في القطر تقريباً، ومن أهم هذه الصناعات (الخشب والموبيليا والمنتجات غير المعدنية...) التي أغلقت الكثير من ورشها ومعاملها الصغيرة في ريف دمشق، وتقلص حجم عمالتها لضعف قدرتها على المنافسة أمام إغراق الموبيليا الجاهزة بعد فتح باب الاستيراد على مصراعيه، وهذا أيضاً كان حال صناعة الغزل والنسيج التي أنهكها إغراق الغزول المصرية سوقنا المحلية بعد أن عانى المصريون طويلاً من إغراق غزولنا لأسواقهم، كما أن الصناعات الكيماوية والغذائية لم تكن بمنأى عن التأثير هي الأخرى، وهذا ما أدى لتراجع مساهمة الصناعة التحويلية عموماً في ناتج الصناعة السورية بفعل تأثير قوانين الانفتاح الاقتصادي، وهذا يؤكد أن وجود قطاع صناعات تحويلية فاعل يعني تقليص معدلات استيراد السلع المصنعة بكافة أنواعها، ويخفض التبعية التجارية والتكنولوجية للدول الصناعية المتقدمة، ولكن الذي حصل لدينا هو العكس تماماً..
إغراق و«نص»
الحديث عن الانفتاح الاقتصادي يعني لفت النظر إلى موضوع الإغراق الذي عانت منه السوق السورية خلال السنوات الماضية، حيث احتكرت المنتجات الصينية والتركية -على سبيل المثال لا الحصر- السوق الداخلية، وأخرجت منتجنا من سوقه الطبيعية، وذلك بفعل الاتفاقات الثنائية غير المتكافئة، من حيث حجم الدعم المقدم من هذه الدول لصناعتها مقارنة بالتراجع عن الدعم المقدم للصناعة الوطنية من الحكومة لدينا، بالإضافة إلى حجم التطور الكبير الذي تعيشه هذه الصناعات مقارنة بصناعتنا الناشئة، وهذا أنتج بالتالي أفظع عملية إغراق لسوقنا المحلية من المنتجات الأجنبية، وبات منتجنا المحلي عاجزاً عن منافستها، لدرجة انها أخرجته أيضاً من سوقه التصديرية عالمياً، وهذا نتيجة منطقية لانفتاح غير مدروس ومتسرع لم يأخذ في الحسابات أولوية الصناعة الوطنية، وضرورة الحفاظ عليها، وأدى بالتالي لفقدان المنتج السوري معظم الأسواق العالمية، لأن تحرير الاقتصاد قبل التمكين مصيبة كبرى، كما أكد أحد الباحثين الاقتصاديين، وهذا أدى لإفلاس الصناعة السورية، وإغلاق الكثير من الورش والمعامل الصغيرة لعجزها عن الاستمرار ومنافسة المنتج القادم من خلف الحدود..