السياسات الاقتصادية - الاجتماعية إلى أين؟؟
لا يمكن القول إن السياسات الاقتصادية- الاجتماعية التي نفذت في المرحلة السابقة، أي منذ استلام ناجي العطري رئاسة مجلس الوزراء، ولمدة سبع سنوات، كانت بريئة، فهذه السياسات اعتمدت نهج استنساخ التجارب الفاشلة على الغالب، علماً أن التجارب الناجحة عالمياً في مجال التخطيط والتنفيذ الاقتصادي (الصين، ماليزيا.. إلخ) كانت تجارب استثنائية وغير مسبوقة، وتم تصميمها وتنفيذها وفقاً لخصوصية هذه الدولة أو تلك، ووفقاً لطبيعة اقتصادات هذه الدول أيضاً، والأهم من كل هذا هو أن التأثيرات السلبية لهذه السياسات المتبعة بدأت بالظهور ولحسن الحظ بعد زمن قصير جداً..
أدى رفع الدعم عن مادة المازوت إلى نتائج مباشرة على ارتفاع الأسعار، وتدني مستوى معيشة السوريين، وأرخى بثقله وتأثيراته على القطاع الصناعي والزراعي أيضاً، اللذين بدأا بالتراجع عاماً بعد عام، ونحن هنا نتكلم عن إجراء واحد فقط، أٌخذ خلال 24 ساعة، وهذا ليس قراراً في سياق منفصل، وإنما خطوة واحدة في سلسلة من الخطوات التي أضرت بالاقتصاد والمواطن على حدٍ سواء، فما هو تأثير هذه المئات من القرارات الاقتصادية على الاقتصاد والمواطن السوري إذاً؟! ومع ذلك استمرت السياسات الاقتصادية المتبعة لدينا -وعلى طول سبع سنوات- على نهجها رغم النتائج السلبية المحققة في المحصلة، وكلنا يعلم أن العبرة بالنتائج أولاً وأخيراً، وهذا يعني أن هذه السياسات لو لم تكن مخترقة في تبنيها هذا النهج الاقتصادي لكانت قد تراجعت عنه بكل بساطة لمثول نتائجها السلبية أمامها..
مقدمات خاطئة
الأرقام الرسمية غير الدقيقة في أغلب الأحيان، استخدمت وسيلة «مقنعة» ولو بظاهرها «لتمرير» هذه السياسات الاقتصادية، على الرغم من شعور المواطن السوري بأن هذه الأرقام لا تعبر بأي حال من الأحوال عن واقعه المعيشي، لكن «لا حول له ولا قوة»، فهو ليس صاحب القرار، ولكنه المتحمل الأكبر والأول لمسؤولية قرارات اقتصادية ليس شريكاً بصنعها..
فالانفتاح الاقتصادي غير المضبوط أثّر سلباً على الاقتصاد السوري، والذي مثل الركيزة الأساسية للسياسات الاقتصادية خلال السنوات السابقة، وهذا أدى لإغراق الأسواق السورية بالمنتج الأجنبي على حساب الوطني، وما رافقه من انهيار الصناعة الوطنية، وتضرر المنتج الزراعي السوري المترافق مع انهيار الميزان التجاري في سورية، وغياب الرقابة عن السلع في الأسواق في ظل غياب فاعلية القانون الاقتصادي أولاً، وقبل كل شيء لغياب فاعليته، وهذه كلها مؤشرات على التأثيرات السلبية للانفتاح والتي لا يمكن إنكارها..
فعجز الميزان التجاري السوري تضاعف 7.5 مرة في أربع سنوات، ففي 2003 كان العام الأخير الذي حقق خلاله الميزان التجاري فائضاً مالياً خلال العقد الأخير بقيمة 28 مليار ليرة سورية، حيث قفز هذا العجز من 31 مليار ليرة في العام 2006 إلى نحو 226 ملياراًفي العام 2009..
ولم تكن سياسات رفع الدعم عن مادة المازوت فاتحة خير على القطاع الزراعي أو الصناعي، والذي ترافق مع مضاعفة أسعار الأسمدة محلياً بنحو 200%، وهذا أدى إلى تراجع كبير في القطاع الزراعي، وخير دليل على هذا التراجع هو لجوء سورية لاستيراد ما يقارب 2 مليون طن من مادة القمح سنوياً، لمدة ثلاثة أعوام متوالية، وذلك لانخفاض إنتاج القمح ما يزيد عن 100% في سورية، وتجلى هذا التراجع الزراعي بشكل أوضح في تأثيره على الميزان التجاري، من خلال تدني نسبة مساهمة الزراعة من 20% إلى ما يقارب 13% فقط من حجم التبادل التجاري والصادرات السورية الآن..
منتج وطني عاجز
وبالعودة إلى الصناعة السورية، فقد أدى رفع الدعم إلى إغلاق ما يقارب من 50% من ورش الألبسة والمعامل الصغيرة، وما يقارب 30% من المنشآت الصناعية الصغيرة في الأعوام الأخيرة، وذلك لعجز المنتج الوطني عن منافسة البضاعة الأجنبية المستوردة من الصين وتركيا مثلاً، وبالتالي عدم قدرة منتجنا على المنافسة في الأسواق العالمية التي كانت ساحة لتصريف منتجاته تاريخياً، لتخرجه هذه المنتجات من الأسواق الأوروبية، ومن أغلب الأسواق العالمية أيضاً، وذلك لارتفاع تكلفة مدخلات الإنتاج الصناعي، وهذا أرخى بثقله على المنتج الوطني، فالصناعة التحويلية تلقت ضربة قاصمة كسرت ظهرها بعد ارتفاع مدخلات الإنتاج محلياً، ومن أهمها صناعات الخشب والموبيليا والمنتجات غير المعدنية، والتي أغلقت الكثير من ورشها ومعاملها، وتقلص حجم عمالتها لضعف قدرتها على المنافسة أمام إغراق الموبيليا الجاهزة بعد فتح باب الاستيراد على مصراعيه، وهذه أيضاً كانت حال صناعة الغزل والنسيج التي أنهكها إغراق سوقنا المحلية بالغزول المصرية بعد أن عانى المصريون طويلاً من إغراق أسواقهم بغزولنا، كما أن الصناعات الكيماوية والغذائية لم تكن بمنأى عن التأثير هي الأخرى، وهذا ما أدى لتراجع مساهمة الصناعة التحويلية عموماً في ناتج الصناعة السورية بفعل تأثير قوانين الانفتاح الاقتصادي..
هذا بالإضافة إلى ما باح به تقرير الصناعة العربية 2009-2010، الصادر عن المنظمة العربية للصناعة والتعدين، والذي يبيّن انخفاض نسبة مساهمة الصناعة التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي من 7.9% في العام 2001 إلى 5.8% في العام 2008..
إذا هذه هي مقدمات السياسات الاقتصادية التي اتبعتها الإدارة الاقتصادية خلال العقد الأخير من القرن الحالي، ولكن ماذا ترتب على هذه السياسات الاقتصادية اجتماعياً؟! وهل ترتب على هذه السياسات الاقتصادية الخاطئة أي تبعات اجتماعية أفقرت المواطن السوري وزادت من تعميق مشكلة البطالة في المجتمع السوري؟!
نتائج كارثية
بالتأكيد للسياسات الاقتصادية نتائج اجتماعية كارثية، فالمقدمات الصحيحة تفضي لنتائج صحيحة، وبالتالي فإن المقدمات الخاطئة ستكون لها نتائج كارثية، فبعد انقضاء سنوات الخطة الخمسية العاشرة (2006 – 2010) التي نصت على أنها ستعمل على تخفيض معدل السوريين الذين يعيشون تحت خط الفقر خلال السنوات الخمس من 11.4، والذي مثل في حينه نحو 1.6 مليون سوري مقارنة بـ 18 مليون مواطن سوري في العام 2006 لتخفيضه إلى 7.5% من السوريين في نهاية العام 2010، ولكن هذه الرقم وهذه النسبة لم تتحقق، حيث أظهر التقييم النهائي الحكومي للخطة الخمسية العاشرة أنّ الخطة لم تحقق هدفها في خفض نسبة الفقر، حيث سجل هذا المعدل نحو 11.2% في نهاية 2010، وهذا ترك خلفه ما يقارب مليوني سوري تحت خط الفقر، فعلى الرغم من الانخفاض الشكلي لنسبة الفقر بنحو 0.2 % إلا أن العدد النهائي للسوريين الذين يعيشون تحت خط الفقر قد ارتفع بمقدار 400 ألف في السنوات الخمس السابقة، وبمتوسط 80 ألف سوري يهوون سنوياً تحت خط الفقر في هذه السنوات السابقة!!..
كما نصت الخطة الخمسية على خفض البطالة إلى نحو 7.3% في نهايتها تقريباً، ولكن الذي حصل هو العكس تماماً، فالخطة الخمسية العاشرة فشلت وبالأرقام الرسمية، في تخفيض نسبة البطالة، أو في تقليص أعداد العاطلين عن العمل، لا بل إنها سلّمت -وبعد خمس سنوات- زميلتها الخطة الحادية عشرة نسبة من البطالة تصل إلى 8،4% مقارنة مع 8% في العام 2005، وارتفاع النسبة يعني ارتفاع أعداد العاطلين عن العمل بشكل أكبر لارتفاع حجم قوة العمل الكلية، وبالتالي فإن الخطة فشلت في تثبيت أعداد العاطلين عن العمل نسبة ورقماً..
فالحقيقة الاقتصادية تؤكد أن لظاهرة البطالة تأثيرات سلبية ذات أبعاد متشعبة تشمل الاقتصاد بأكمله، حيث أن ارتفاع البطالة يعني عجز الاقتصاد عن استغلال القوة البشرية التي يملكها، والتي تعد إحدى مقومات أي اقتصاد في العالم، وهذا يضاف إلى انخفاض المستوى المعيشي للسوريين لارتفاع نسبة الإعالة، مقارنة بالدخل المحدود والقليل، كما أن البطالة تفرز كماً غير قليل من الظواهر الاجتماعية الخطرة، والتي لا حاجة لتكرارها هنا، فالتأثير ليس أحادياً وإنما هو متعدد..
المطلوب محاكمة الحكومة
الأمور تقاس بنتائجها في نهاية المطاف، والحكومة السابقة التي جثمت فوق صدور السوريين لسبع سنوات متواصلة فشلت في تحسين اقتصادهم أو أوضاعهم المعيشية، ولكن الأكثر أهمية هو ذهاب هذه الحكومة بعد الاحتجاجات الشعبية الأخيرة المطالبة برحيلها لدورها في تخفيض مستويات معيشتهم، ولكن رحلت دون مساءلة أو محاكمة..
فهذه النتائج وتداعياتها على السوريين لا يعود لخلل في التنفيذ أو التخطيط كما يحاول الترويج له البعض، وإنما كانت هذه السياسات الاقتصادية بمثابة جريمة أمعنت الإدارة الاقتصادية السابقة باقترافها بحق 20 مليون سوري.
إن المطلوب اليوم من الحكومة الحالية لتحسين الاقتصاد وأوضاع السوريين هو التراجع عن السياسات التي انتهجتها الحكومة السابقة، لكي ترضي السوريين وتحقق مطالبهم ومتطلباتهم، دون أن ننسى أن مطلب محاسبة الحكومة ورموزها هو مطلب لجميع السوريين، وربما هو الوحيد الذي يحظى بإجماعهم، لدورها في التفنن بإفقارهم تحت مسميات الانفتاح والإصلاح الاقتصادي..