لقاء د.قدري جميل مع الإخبارية السورية استمرار الأزمة لثلاثة أشهر سيتسبب بتوقف الاقتصاد بسكتة قلبية
دكتور قدري، هل حميت المستهلك منذ تسلمك هذه الوزارة؟ أم أنك لم تبدأ بعد؟
إن العملية صعبة وإذا أردنا التحدث بالترتيب:
أولاً: لقد أتينا على الوزارة بعد عشر سنوات من سياسات اقتصادية سحبت من يد الدولة جميع الأدوات المتحكمة بالسوق وإن لم نقل جميعها فقد سحبت (80%) منها.
ثانياً: لقد أتينا على الوزارة بظرف أزمة بالمعنى العسكري والأمني، وبالتالي فالحلول الاقتصادية في أحيان كثيرة لا تعمل، لأن العوامل العسكرية والأمنية هي التي تقرر.
فعلى سبيل المثال: عدم القدرة على نقل المواد الرئيسية مثل الطحين والمازوت مشكلة، والآن الرقة ودير الزور والحسكة تعاني من نقص في الطحين، والمشكلة الكبرى أن المطاحن الموجودة في المحافظات الثلاث غير مخطط لها جيداً بشكل يكفي حاجة المواطنين وحاجة استهلاك المناطق نفسها، وهي تعتمد في جزء من استهلاكها لهذه المادة على مطاحن حلب وريفها.
والسؤال: حين يكون الطريق مقطوعاً، كيف سيتم نقل الطحين؟ ولذلك لا بد من إيجاد طرق فرعية، وهنا أقصد أن أمن الطرقات وسير السكك الحديدية وسير الشاحنات له علاقة كبيرة بالوضع الاقتصادي.
أظن أن هناك قضية لم ننتبه لها في بداية الأزمة وهي أن النقل قضية استراتيجية كبرى، والنقل في سورية غير مخطط له للتعامل مع الأزمة، فعندما وقعت الأزمة توقف النقل عملياً في مناطق كثيرة، وعندما يتوقف النقل يتوقف الاقتصاد بمجمله لأننا لن نستطيع النقل (من وإلى).
وقد وصلت الأمور في بعض المناطق لحدود درامية أو حتى هزلية، فالمصافي تمتلئ بالفيول في مستودعاتها ومن الممكن أن تتوقف عن العمل بسبب عدم القدرة على صرف الكميات، وفي الوقت ذاته من الممكن أن تتوقف بعض محطات الكهرباء عن التوليد بسبب نفاد الفيول!! والغاز موجود بكثرة في المرافئ والمستودعات، ومع ذلك فإن سعر اسطوانة الغاز (ونتيجة لعوامل العرض والطلب) يصل لحدود (1700 ل.س) بسبب قضايا النقل بالدرجة الأولى وبسبب وجود فساد وتجار أزمة يريدون الاستفادة من الهوة الموجودة بين العرض والطلب والتي خلقها ظرف مؤقت، وهم مستمرون بالاستفادة من الخلل وجعله دائماً ومصطنعاً.
لذلك لدينا مشاكل عديدة من هذا النوع، فهل تطلبين مني إيجاد حلول اقتصادية بحتة لقضايا المواطنين في ظرف أزمة، مع أني أعتقد وأقر بقضايا مستعجلة نقوم بحلها وهي:
مشكلة الغاز والمازوت: الحقيقة الكاملة أننا دخلنا الأزمة من دون أي استعداد للعقوبات الخارجية الأوربية والأمريكية، فنحن نستورد نصف استهلاكنا من مادتي الغاز والمازوت، وعندما جاءت العقوبات فجأة، لم يعد بإمكاننا أن نستورد (بشكل نظامي) ليتراً واحداً من المازوت أو حتى كيلو غرام من الغاز، فما العمل؟
لا بد من تأمين خطوط جديدة في ظروف الحصار، ولقد بدأنا فعلياً بهذه العملية في زيارتنا الأولى لموسكو في 29 / 7 / 2012 ، وبدأنا بفتح خطوط مصرفية جديدة وخطوط نقل جديدة الآن بإمكاني القول وبكل جرأة إننا أنهينا المرحلة الأولى من التحضيرات في قضايا الاستيراد والتصدير، والمرحلة الأولى هي الأهم لأن التنفيذ الفعلي يتم بعدها.
المطلوب اليوم هو تأمين مقومات الحياة للمواطن.
وهل أمّنتم ذلك في الوزارة؟
الخبز والماء والكهرباء هي المقومات الأساسية، واستطعنا تأمينها ولكن حسب الوضع الأمني، والوضع متدهور اليوم أكثر مما كان عليه في نهاية الشهر السابع، هناك مناطق عديدة مقطوعة عن الاتصال، ولم يكن أحد يتصور أن يتدهور الوضع (بالمعنى الإنساني) بهذا الشكل في بعض المناطق السورية.
لسنا أنبياء ولكننا نعرف، ولا بد من الاستنتاج الذي يمكن استنتاجه من النقطة الأولى أنه وحتى القضية الاقتصادية اليوم لا يمكن حلها دون حل سياسي، أنت تطلبين حلاً اقتصادياً لقضية اقتصادية بينما الحل الأساسي والجذري لها هو الحل السياسي وإيقاف العنف.
هل رفع سعر المازوت حل سياسي بالدرجة الأولى؟
أنا ضده من حيث المبدأ، وأتحدث بشكل علني أنني ضد رفع سعر المازوت من حيث المبدأ لأنه لن يحل شيئاً، ولدينا مشروع آخر نعمل عليه وسنعلن عنه خلال الأسابيع المقبلة.
المشكلة التي اكتشفناها وتعلمناها خلال الشهرين الماضيين، أننا نستورد المازوت والغاز بزيادة عن حاجتنا بنسبة 20%، ما السبب؟
وأين تذهب الزيادة؟
في التهريب، واكتشفنا أن هذا الاستيراد الزائد أولاً بسبب الفساد وهدفه في النهاية التغطية على منافذ التهريب، أي أن المواطن السوري عملياً يدفع من دمه وعرقه الأرقام المضخمة للاستيراد لمادة الغاز والمازوت.
لم يكن يخطر ببالي أن الغاز يتم تهريبه، ولم أكن أعلم ذلك، واكتشفنا بالتجربة أن تهريب اسطوانات الغاز أسهل من تهريب مادة المازوت إلى تركيا والأردن ولبنان.
وفي جلسة لي مع وزير الطاقة الروسي، طلبنا منه (45 ألف طن) شهرياً من الغاز فقال لي لماذا كل هذه الكمية؟ فنحن نصدر لبيلاروسيا حوالي 10 آلاف طن شهرياً فقلت له: وكم عدد سكان بيلاروسيا؟ فقال (9 ملايين)، نحن في سورية(23 مليون) فهذا يعني - مقارنةً ببيلاروسيا - أننا نحتاج لـ (25 ألف طن) فقط.
نحن نستهلك 90 ألف طن، ولنفترض أن عاداتنا الاستهلاكية غير بيلاروسيا، ولنجعل الـ (25 ألف طن) تصبح (50 ألف طن)، ومع ذلك هناك فارق كبير بالرقم أكثر من اللازم، وهكذا بالنسبة للمازوت، والآن نحن ندرس الموضوع مع بعض المختصين، وتوصلنا إلى أن الهدف من هذه الزيادة لم يكن تاريخياً لتلبية حاجات الداخل، وإنما كان هدفها تلبية حاجات التهريب إلى دول الجوار يعني المواطن السوري يدفع من جيبه عبر الخزينة وللموازنة ويمول جزءاً من محروقات تركيا ولبنان على حسابه.
عبر التعاون مع الاختصاصيين الحكوميين وغير الحكوميين نضجت فكرة خلال الشهر الماضي والآن ينجز مشروع، وسأعلن عنه لأول مرة وهو أنه: لم يعد ممكناً الاستمرار بأسعار المازوت بهذا الشكل وبنفس الوقت لا يمكن المس بلقمة المواطن ومعيشته، نحن التزمنا بالدعم في البيان الحكومي للمواطن السوري في كل القضايا الأساسية مادام أجره لا يتوافق مع ضرورات الحياة المعيشية وسنفي بهذا الالتزام ولكن من جهة أخرى هل من المعقول أن نسمح أن يذهب جزء هام من الدعم المخصص للمشتقات النفطية والمواد الغذائية الأساسية إلى الفاسدين عبر آليات وتعقيدات كبيرة يقومون بها .... كلا، يجب أن يكون الدعم من الآن لمصلحة المواطن المحتاج، الدعم لم يقر لكي يحصل عليه الفاسدون الكبار ليزيدوا ثرواتهم بحجة الدعم.
هذه الحقيقة المؤلمة يجب الاعتراف بها، وأنا تفاجأت بحجمها لأني على علم بالتهريب لكن لم يكن متوقعاً أن يستفيد الفاسد من الدعم أكثر مما يستفيد المواطن العادي منه لذلك يجب الانتهاء من هذا الوضع.
الفكرة التي بين أيدينا والتي نؤسس لها هي: إن سعر المازوت في السوق يجب أن يكون السعر الدولي نفسه حتى نمنع التهريب، لكن كل عائلة سورية يحق لها كمية معينة مدعومة ب 15 ليرة سورية، فكم يبلغ استهلاك العائلة السورية منه سنوياً؟ الرقم مع الاختلاف عليه بين 400 – 600 لتر بالسنة.
أما الغاز يقدر باسطوانة بالشهر، مواد غذائية سكر، رز، شاي، زيت، .... الخ
معروفة كمياتها حسب البطاقة التموينية، وحتى الخبز مدعوم.
فإذا رفعنا سعر المازوت إلى أسعار السوق الدولية، وأعطينا الفرق الذي هو بين السعر المدعوم (15 ل.س) و (40 ل.س افتراضية) - علماً أن الرقم في الواقع أعلى حسب أسعار السوق الدولية - نقداً لكل عائلة، فالفرق بين (15 و 40) هو (25 ل.س) إن ضربناه ب (600) فيكون الناتج حوالي (15 ألف) ليرة أو أقل، فنعطيه للعائلة السورية نقداً لشراء المازوت على دفعتين في بداية فصل الشتاء وقبل انتهائه. أسطوانة الغاز بكم تباع في السوق؟ يجب أن لا تباع كما تباع الآن بل تصبح مدعومة بـ (250 ل.س) ويأخذ المواطن الفرق نقداً أيضاً، أي تأخذها العائلة حصراً وليس على طريقة البطاقة السابقة التي كانت تتسبب بمغالطات وإهانات كبيرة للمواطن السوري، وعبر الاستهلاكيات نؤمن كل شهر كيلو رز، كيلو برغل ومثله زيت ...الخ لكل فرد ويؤخذ حسب دفتر العائلة وبالسعر المدعوم الحالي أقل أو أكثر بقليل لا خلاف.
أي يأخذ السلة الغذائية الخاصة به كاملةً، ويمكن البحث بشكل أعمق لحين تنضج الأفكار، لكن بالنسبة للمازوت الخطة جاهزة: نعطي لكل مواطن بطاقة ذكية لأن ما اكتشفناه أن الدولة تغطي المواطنين أصحاب الحاجة بشكل كبير جداً، وتوفر عملياً نصف حجم الدعم الذي تدفعه من خزينتها والذي كان يذهب فعلياً إلى التهريب أو إلى القوى التي ليست بحاجة حقيقية له.
- قلت أنك لم تكن راضياً عن رفع سعر لتر المازوت لـ 23 ل.س؟
أنا لم أكن راضياً عن رفع سعره من (20 -23 ل.س) ولست راضياً عن رفع سعره من (23- 25 ل.س) لأن هذا ليس حلأً.
بما أنك رفعت شعار حماية المستهلك وتأمين متطلبات الحد الأدنى من معيشته، فأنت تتحمل مسؤولية عدم توفير متطلبات الحد الأدنى من هذه المعيشة ... والمازوت والغاز أهمها ونحن مقبلون على موسم المدارس وتجهيز مؤونة الشتاء؟
عملياً المازوت الآن وبسبب الأوضاع يباع بسعر أعلى من السعر الرسمي والذي قليلاً ما يباع به، وفارق ليرتين أو ثلاث ليرات ليس المواطن الذي يدفعه، لأن المواطن يدفع ما بين (30 – 40) ليرة، وإذا استطعنا أن نخفض البيع ((الملتوي أو البيع على أبو جنب)) في الأسواق الموازية للمازوت. نكون قد استطعنا حماية المواطن فعلياً.
دكتور، أنت بهذه الحالة لا تحمي المستهلك، أنت توصّف وضعاً ونحن لسنا بحاجة لتوصيف الوضع، نحن بحاجة لاتخاذ إجراءات حقيقية تحمي المواطن، فقد تحدثت عن وجود فاسدين، وعن وجود خلل وتهريب وتعد على الأسعار الحقيقية من خلال رفع أسعار مختلف المواد الأساسية، فأسطوانة الغاز تباع بـ 2000 ل.س في السوق السوداء، أين أنتم وأدواتكم في الوزارة؟ الأدوات المعنية بذلك؟
أولاً أنت تحاسبين وزارة مسحوب منها عملياً كل أدوات التحكم خلال العشر سنوات الماضية.
لكن كل الأدوات أصبحت بيدك؟
كلا ليس صحيحاً، الأدوات هي الأدوات الاقتصادية، الأدوات ليست الناس، هذه الأدوات سُحبت عملياً عبر السياسات الاقتصادية السابقة من هذه الوزارة ومن كل الحكومة، أصلاً هذه الوزارة لم تكن موجودة من قبل بل تم إنشاؤها مؤخراً.
- ولماذا لم تسترجع هذه الأدوات؟
لأنه يجب إحداث انعطاف بالسياسات الاقتصادية.
أين المشكلة؟
المشكلة أنه في ظل الأزمة من المستحيل أن نقوم بهذا الانعطاف مادام لدينا أزمة وطنية شاملة وتوتر أمني وعسكري، فإن هذه القضية مؤجلة لأنها من القضايا متوسطة البعد الزمني التي يجب حلها بعد الخروج من الأزمة وإنهاء التوترات الأمنية.
لكن الأزمة قد تطول والمواطن هو الذي يتحمل العبء الأكبر ولن يسامحكم كوزارة.
الأزمة إن استمرت ثلاثة أشهر أخرى، سيتوقف الاقتصاد السوري بأكمله ليكون هذا بعلمك، الأزمة يجب أن تتوقف، والأزمة لن توقفها إلا الوسائل السياسية، ألا تشاهدين المعامل والشركات التي تغلق والاقتصاد في التراجع، اليوم هناك تراجع بسعر صرف الليرة مقابل الدولار واليورو، ألا تسألين نفسك هذا السؤال؟
لأن الإنتاج السلعي في تراجع، ولأن المعامل تتوقف، ترى ما هي أسباب توقفها؟ هل لأن وزارة التجارة الداخلية هي التي تقوم بإيقافها؟ أم لأن العمال لا يستطيعون الوصول لمعاملهم، ولأن المواد الخام لا تصل إلى المعامل، ولعدم وجود أسواق تصريف؟
يجب عدم تبسيط الأمور بهذا الشكل.. أرجوكِ!
هناك أزمة حقيقية، وأنا من هذا المنبر أقول وأنا مسؤول عن كلامي، إن استمرار الأزمة السياسية لأشهر قليلة قادمة يهدد الاقتصاد السوري بالسكتة القلبية من أوله لآخره.
لذلك كل منظومة العلاقات الاقتصادية، وكل منظومة الأسعار وكل منظومة الأجور بقدرتها الحقيقية الشرائية، مصيرها وحلها اليوم واحد هو عبر الحل السياسي.
إذا لم نذهب اليوم إلى حل سياسي فلن يكون هناك حل اقتصادي أو أمني أو عسكري شامل، من الطبيعي والصحيح أن يدافع الجيش السوري _ وهو يدافع _ عن الوحدة الوطنية ووحدة التراب الوطني، ويجب أن يكون حامل السلاح الشرعي الوحيد، ولكن من المستحيل تطبيق الحل العسكري الشامل في الظروف الحالية نتيجة التدخل الخارجي غير المباشر والمستمر، لذلك الذهاب إلى الحل السياسي ضرورة عظمى وكبرى في هذه الظروف، ودونها لا يمكن الحل.
هل عدم التلاعب يتعلق بالشق السياسي؟ خاصة وأنك تربط كل القضايا بالحل السياسي دون الحلول .
نحن خفّضنا جزءاً كبيراً من مشكلة الغاز، ونحن الآن مقبلون على قضية المازوت وسنتخذ الإجراءات المطلوبة حتى لا نترك التلاعب بمادة المازوت يصل للحدود التي وصل إليها الغاز في مراحله الأولى، وأعتقد أننا قادرون على ذلك.
لماذا هذا الفلتان بالأسعار في الأسواق؟
بسبب انخفاض عدد المراقبين، فكيف يكون الالتزام دون رقابة؟ واكتشفنا في المحصلة أن المراقبين أنفسهم بحاجة لمراقبين !
والنتيجة والحل؟
أنا برأيي النتيجة والحل حسب التجربة التي أثبتت ذلك، أن المواطن يجب أن يلعب الدور الأساسي عبر تشكيلاته الخاصة للدفاع عن لقمته، وأثبتت التجربة من خلال قصة الغاز التي تم حلها في أماكن عديدة عبر المواطنين الذين نظموا صفوفهم وقاموا بتنظيم الدور، ومراقبة كمية الأسطوانات التي تصل إلى هذا المركز أو ذاك واستطاعوا حل المشكلة، أنهم قادرون على حل مشاكل مشابهة، ومن يعتقد أن جهاز الدولة يستطيع حل كل المشاكل، فهو مخطئ كثيراً.
على أن تكونوا لاعباً أساسياً مع المواطن؟
نعم، لدعم المواطن، على أن يتعاون المواطن معنا، وذلك عن طريق خلق أشكال تنظيم لإدارة هذه العملية على الأرض، عبر مراقبتنا من جهة (مراقبة جهاز الدولة الذي يوزّع) وتنظيم صفوف المواطنين من جهة أخرى، هذه العملية تعطي نتائج جيدة ويجب تعميمها والاستمرار بها، ومن المستحيل من اليوم فصاعداً - وليس بسبب الأزمة، بل بسبب تعقّد العمليات الاقتصادية والاجتماعية الجارية – أن يستطيع جهاز الدولة وحده أن يحل كل شيء، وأصلاً إذا أُعطيت له كامل الحرية بالحل، فسينحو دائماً نحو خطر الذهاب باتجاه الفساد، فدون مراقبة المجتمع اللصيقة المباشرة له وعينه الساهرة عليه، من المستحيل أن يحل كل القضايا.