النموذج الاقتصادي المطلوب لسورية.. وللعرب جميعاً
د. نزار عبد الله د. نزار عبد الله

النموذج الاقتصادي المطلوب لسورية.. وللعرب جميعاً

في إطار النقاش الذي فتحته «قاسيون» في أعداد سابقة حول النموذج الاقتصادي المطلوب قدم د. نزار عبد الله هذه المساهمة..

يتصف الاقتصاد العربي كله بأنه على درجة متواضعة جداً من التطور قياساً لموارده البشرية والاقتصادية، فقد جعله الاستعمار القديم والاستيطاني والحديث مشلولاً في حراكه، منهوب الثروات الطبيعية والبشرية، ويتم تهجير قرابة خمس «أدمغته» وعماله المهرة سنوياً، إضافة إلى ملايين العقول والعمال المهرة الذين هجروا حتى الآن.

بالنسبة لسورية فإن البطالة تطال قرابة 50% من القادرين على العمل فيها، وإنتاجية العمل ورأس المال منخفضة جداً قياساً بالدول المتطورة اقتصادياً بسبب سوء الإدارة والفساد، كما أن الإنتاجية في القطاع الزراعي منخفضة والبون يزداد اتساعاً بيننا وبين الأمن الغذائي. أما عن الطاقات الإنتاجية للاقتصاد فهي مستغلة جزئياً فقط، ويتراوح ذلك بين 40-70% فقط، أما مستوى الأجور فمتدن جداً، ويصل الحد الأدنى فيه إلى 6000 ل.س شهرياً  فقط، علماً أن المشتغل يعيل معه أكثر من 3 أشخاص آخرين.. كما أنه لا يوجد نسيج صناعي رغم عراقة صناعتنا التي تعود لآلاف السنين، بل هنالك جزر صناعية فحسب، وتتشابك الصناعات المحلية مع مصانع في الخارج وخاصة في الدول الأوروبية.. أي أن فوائد مضاعفة الاستثمار تعود على الخارج وليس على الداخل.

من جهة أخرى، حصة السكن العشوائي تقارب ثلثي المساكن، وهذا يعني أن خدمات البنية التحتية غير متوفرة لحصة كبيرة من السكان، علماً أن السكن العشوائي يعد تبديداً للموارد الاقتصادية المحدودة، وقد خطط له من جهات معينة، عبر عدم ترخيصها لمساكن إلا بما يعادل جزءاً صغيرا من الطلب، مما ينجم عنه فرض السكن العشوائي وارتفاع أثمان المساكن لتصل أرقاماً فلكية!

كان المشتغل بأجر يستطيع أن يشتري سكنا نظامياً من أجره، حيث كانت أسعار المساكن تتراوح حول أجر عامين أو ثلاثة، في حين أصبح عليه الآن أن يعمل عقوداً، يدخر فيها أجره بالكامل إذا أراد الحصول على سكن.

نريد اقتصاداً مقاوماً

سنظل حتى تحقيق أهدافنا الوحدوية والتحررية في حالة حرب مع الغرب المستعمر بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، فعندما اجتاح الغزاة الأطلسيون عام 2003 العراق الشقيق وعاثوا فيه فساداً وتدميراً وقتلاً، أعلن مجرم الحرب بوش مخاطباً سورية: «لقد أصبحنا جيرانا»!.. لذلك ينبغي انطلاقاً من واقعنا الاقتصادي أن نعد اقتصاد حرب، اقتصاد مقاومة، ونركز في خططنا الإنتاجية على الضروريات وليس الكماليات. لنتعظ من حليفتنا الإستراتيجية وجارتنا المسلمة إيران كيف طورت صناعاتها من وسائل نقل وأسلحة، وشيدت منشآت الطاقة النووية، انطلاقاً من أنها مثلنا مهددة بالغزو دائماً، ونحن لا نزال نرى في سورية «قلب العروبة النابض»، وهذا يتطلب منا أن نحشد مواردنا البشرية والاقتصادية للمعارك الحالية والمستقبلية. ينبغي أن نحشد مدخراتنا المحلية ونستثمرها، وينبغي توفير موارد محلية وفيرة لهذا الغرض، لا أن نستجدي رأس المال الأجنبي! نحن نواجه معركة التحرير، ومعركة البناء الاقتصادي معاً ولا انفصام بينهما.

إن النموذج الليبرالي الذي ينحاه الفريق الاقتصادي يتعارض كلياً مع مصلحة البلاد.. فكيف لنا أن نترك حجم ونوع استثماراتنا لميول المستثمرين المحليين والأجانب خاصة كما تقترح النظرية الرأسمالية؟

لقد سقط النموذج الليبرالي في الغرب، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، وانهار اقتصاد السوق، وعادت الدولة الرأسمالية تتدخل بقوة بعملية توزيع الدعم، وبالتدخل بالسياسة الاقتصادية لتوجيه دفة الاقتصاد، وضخ آلاف المليارات من الدولارات في الاستثمارات لمواجهة الكارثة الاقتصادية، التي نجمت عن اقتصاد السوق المنفلت من القيود.. تجلت الأزمة المالية في القطاع المصرفي والأزمة الاقتصادية البنيوية قادمة! لقد عادوا في الغرب إلى قراءة كينز وماركس الذي أحرقوا كتبه منذ عقود خلت، ومن جهة أخرى يجب أن ننتبه أنه قد انهار المفهوم السوفيتي السابق للاشتراكية، وليس الاشتراكية!

يحتاج القطر إلى استثمارات ضخمة ليحل مشكلة البطالة البنيوية، وليطور القطاعات السلعية من زراعة وصناعة وتشييد، كما يجب أن نحلي مياه البحر، ونجعل الزراعة كلها مروية، كما ينبغي أن نرفع الرواتب ليصبح أجر المشتغل بما لا يقل عن 50 ألف ل.س شهريا، لنوفر حياة كريمة لجميع المواطنين، لكن ما نشهده اليوم هو أن القطاع الخاص ليس معنياً برفع الرواتب والأجور، بل يريد خفضها على الدوام، لأنه لم تتشكل عندنا رأسمالية  وطنية رشيدة، فيجب أن ترفع الأجور والرواتب بشكل مستمر لتحريك الطلب الكلي وتفعيله.

وينبغي أن ننفق أكثر من 5% من الناتج المحلي الإجمالي على البحث العلمي، الذي هو أساس وبوصلة التطور الاقتصادي، وينبغي أن نطور التعليم ونبقي عليه مجانياً وحكومياً في كل مراحله، فالاستثمار في رأس المال البشري هو نقطة الانطلاق سواء التعليم والصحة والضمان الاجتماعي.

القطاع العام أولاً

لن يتطور الاقتصاد دون قطاع عام قوي يكون محرك التنمية الاقتصادية، فهل نستطيع أن نتخيل كيف سيكون عليه الوضع عند خصخصة الكهرباء مثلاًُ؟! خصوصاً عندما مقارنته بقطاع السكن، وماذا حل به؟ بعد تركه للقطاع الخاص! فعندها نتوقع أن يعود السوريون إلى ضوء الشموع وغيرها! لأن التعرفه الكهرباء سترتفع، وسترتفع كلفة الإنتاج بالنسبة لكل الشرائح، ومنها شركات القطاع الخاص أيضاً.

ولنتذكر أن شركات من الكيان الصهيوني اشترت نصف الشركات في الأردن التي خصخصت منذ سنين خلت، علماً أن خصخصة الشركات والمؤسسات الحكومية تفريط بالأمن القومي العربي.

لماذا القضاء على القطاع العام إذا لم يكن ذلك استجابة لإملاءات العدو الامبريالي(؟!) الذي يحاول تدميرنا بشتى السبل العسكرية المباشرة أو عبر وصفات خبرائه في صندوق النقد الدولي والمصرف الدولي وبيوت الخبرة الغربية، من خصخصة وإلغاء للجمارك، الذي نجم عنه القضاء ليس على الكثير من الصناعات القائمة وحسب، بل وتفويت الفرصة على إقامة صناعات جديدة في المستقبل سواء أكانت قطاعا عاماً أو خاصاً، لأننا حرمناها من الحماية الجمركية، ومن الدعم ومن القروض الميسرة، ولأن السياسة الاقتصادية التي يتبعها الفريق الاقتصادي تستجيب لوصفة صندوق النقد الدولي المدمرة للاقتصاد بجعل السياحة المشروع الاستثماري رقم واحد وليس الزراعة أو الصناعة.

لدينا موارد سياحية طيبة، وليست لدينا خدمات سياحية متطورة بعد، لذا ينبغي تطوير شبكة الخطوط الحديدية وجعلها تسير بسرعات عصرية مثل باقي الدول المتطورة سياحياً ونقلياً بين 300-500 كم/ساعة، كما ينبغي الاستثمار في اقتصاد الثقافة بكل فروعها خاصة حراسة المناطق الأثرية وجعل التنقيب حكرا على العرب واستبعاد جميع الفرق الأجنبية حفاظاً على مواردنا من التلف والنهب والتزييف، ويتطلب ذلك إقامة جامعات حكومية متخصصة لدراسة الآثار والتنقيب والتحليل والترميم الخ. السياحة الثقافية مفيدة لنا، بيد أن سياحة المتعة مدمرة للبنى الاجتماعية مع ما تتضمنه من مخدرات وموبقات وإجرام. إن السياحة بصورتها الحالية استيراد وليست تصديرا. مخططات المنشآت السياحية وتجهيزاتها وفنيوها ومستلزماتها الجارية معظمها مستورد مثل رأس المال، وكذلك تذهب الأرباح للخارج، وهي فوق ذلك تحصل على تخفيضات ضريبية سخية.

تطوير القطاع الزراعي

ينبغي أن تكون لدينا وفرة في الإنتاج الزراعي والصناعي حتى نتمكن من الاستفادة من السياحة.. نحتاج إلى دولة قوية اقتصادياً تمول بإيراداتها السيادية من ضرائب دخل مرتفعة تصل إلى 70% وإلى تعرفة جمركية مرتفعة تحقق إيرادات كبيرة وتحمي الصناعة الوطنية، وقطاعاً عاماً قوياً وقطاعاً خاصاً منتجاً في صناعات جديدة إلى جانب القطاع العام.

تبرر النظرية الرأسمالية أرباح القطاع الخاص بالمخاطرة والإبداع، فلماذا نرهله بتوريثه القطاع العام بعد شله عن العمل؟! نستطيع بواسطة القطاع العام والخاص معاً  معتمدين على خبراء عرب تشييد نسيج صناعي متطور عبر تقسيم عمل دولي جديد يعتمد على التكامل مع الأقطار العربية الأخرى ومع الدول الإسلامية وعبر تطوير القطاع الزراعي لتحقيق الأمن الغذائي العربي، وفائض لمساعدة الدول المنكوبة مثل باكستان وغيرها، هكذا بنت كل الدول نهضتها الاقتصادية بسياساتها التدخلية في كل القطاعات الاقتصادية.

ينبغي مساعدة القطاع الخاص على النمو بما يتطابق مع مصلحة الوطن، ودون أن يسيطر على الدولة والقرار السياسي، فمصلحة  الوطن العليا بجماهيره الواسعة ينبغي أن تظل  مصونة، فلا يستطيع الجياع لا الإنتاج الوفير، ولا الذود عن حياض الوطن بكفاءة عالية، وهذا ما يريده العدو الغربي الأمريكي الأوروبي الصهيوني عبر أساطيله وخبرائه من تجويع عامة الشعب وإفقاره، ليمهد الطريق لغزوه، فهل نمكنه من ذلك عبر الاستمرار في تطبيق النموذج الليبرالي؟.