دعم المواد الغذائية المباشر.. نواة دعم حقيقي مشوّهة

دعم المواد الغذائية المباشر.. نواة دعم حقيقي مشوّهة

في بحث الحكومة لمشكلات ارتفاع الأسعار، تتعهد وبكامل الثقة، بتأمين وتوفير جميع المتطلبات والمواد الغذائية والاستهلاكية واتخاذ إجراءات لمعالجة ارتفاع الأسعار في السوق المحلية.. بينما تنحصر «سلة» المواد الغذائية التي «تتبناها» الحكومة بمكونات ضرورية ثلاثة هي الخبز، الأرز، والسكر

و»التبني» هنا أي المواد التي تحرص الحكومة على تأمين كميات منها بناء على الحاجة الضرورية الوسطية لإجمالي السوريين والمقدّمة بدعم يثبت أسعارها ويخفف من تكلفتها. وتقوم بتوزيع شهري بموجب «البونات» لكل أسرة (بالنسبة للسكر والأرز).

من جملة مواد استهلاكية كانت تقدمها الحكومة في مؤسساتها بأسعار مخفضة (كالشاي والعدس والحمص وغيرها.. ) لم يتبقّ من المواد التي توزعها المؤسسات الاستهلاكية بأسعار مدعومة سوى الأرز والسكر.

حيث تستورد الحكومة بشكل مباشر كميات من هذه السلع الغذائية، وتوزعها بحصة شهرية وبسعر مدعوم لكل أسرة وبكميات محددة بناء على عدد الأفراد، وفق نظام «البونات».

ويضاف إلى الدعم المباشر الذي تقدمه الحكومة لمستهلكي هذه المواد، دعم إضافي لمستورديها، حيث تعتبر مستوردات القطاع الخاص من مادتي السكر والرز  إحدى المواد الغذائية التي حرص المصرف المركزي على تمويل مستورداتها بالقطع الأجنبي، وتوقف عن هذه العملية من فترة قصيرة فقط، أي تزويد المستوردين بالقطع بسعر الصرف الرسمي المخفض عن سعر صرف السوق..

على الرغم من دعم هذه المواد بطرق مباشرة، وغير مباشرة، للمستهلك وللمستورد إلا أن مستوى مساهمة هذا الدعم في دعم الدخل الحقيقي للمستهلكين هو مساهمة ضعيفة، نظراً لعدم انخفاض وسطي أسعار المادتين في السوق السورية خلال الأزمة عن السعر العالمي، واستمرار تغير أسعارها مع تغيرات أسعار السوق السوداء..

دعم السكر «الحكومي»

تقدر الحكومة الحاجة السنوية من السكر  بناء على تقدير حصة الفرد من الاستهلاك الشهري بـ 1 كغ، لتبلغ كميات الاستهلاك السوري الضروري سنوياً 296 ألف طن، منها 145 ألف طن سكر خام مستورد للتكرير أي نسبة 53% المستورد، بينما النسبة الباقية تنتج محلياً من الشوندر السكري، للإنتاج المحلي إشكالياته فعدا عن تراجع الإنتاج في هذا العام مع تراجع المساحات المزروعة بالشوندر السكري بنسبة تزيد عن 50 % بالإضافة إلى توقف معامل السكر، فإن السكر المنتج محلياً لا يمكن الاعتماد عليه في هذا العام، كما أن تكلفته والدعم المخصص له أكبر  حتى قبل الأزمة حيث بلغت تكلفة الدعم للكغ المنتج محلياً 48 ل.س مقابل 29 ل.س للكغ المستورد، وذلك بأسعار صرف 60 ل.س/$. الاعتماد على الاستيراد يزداد بشكل كبير ويدل على ذلك أن وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية صرحت بأنها تعاقدت في عام 2013 على استيراد 350 ألف طن سكر لتؤمن بها حاجة السوق، أي بزيادة كبيرة عن كميات الاستهلاك الضروري التي توزعها الحكومة.

تقدر تكلفة استيراد كغ السكر بحدود 62-65 ل.س (627 دولار للطن* 100ل.س) ليكون إجمالي الدعم المقدم في الفترة الحالية بسعر كغ السكر وفق البطاقة التموينية 15 ل.س يقدر بـ 50 ل.س/كغ. 

لتبلغ كلفة دعم 350 ألف طن سكر مستورد حوالي 17،5 مليار ل.س، بينما تكلفة الدعم لاستهلاك الضروري تقدر بـ 13،4 مليار  ل.س.

دعم الأرز «الحكومي»

الحاجة السنوية من الأرز تقدر حكومياً بناء على حصة للفرد نصف كغ شهرياً بتقدير عدد الأسر السورية 4 مليون أسرة بمتوسط عدد أفراد 5. لتبلغ الكمية التي تستوردها الحكومة وتقدر دعمها على أساسها مقدار 134 ألف طن أرز.

بينما بلغت في عام 2010 كميات الأرز المستوردة ما يبلغ حوالي 382 ألف طن بين أرز مقشور وأرز مضروب جزئياً.

تبلغ كلفة استيراد كغ الأرز مقدار 56 ل.س (564 دولار للطن* 100 ل.س) ليبلغ مقدار دعم كغ الرز المباع حكومياً حوالي 40 ل.س.

إذاً فإن كلفة الدعم الحكومي لكميات الاستهلاك الضروري من السكر والأرز تبلغ 18،7 مليار ل.س تقريباً..

دعم «للطرف الآخر»

لا يأخذ شكل الدعم الحكومي للمادتين شكل الدعم المباشر للمستهلك فقط، وإنما يتعداها إلى دعم غير مباشر للتجار عن طريق تمويل المستوردات بالقطع الأجنبي.

فالحكومة التي تمول مستوردي المادتين بالقطع الأجنبي، تقدم لهم قيمة مستورداتهم وفقاً للفواتير وفق سعر الصرف الرسمي لتأخذ مقابلها ليرة سورية. بالتالي فإن كلفة هذا الدعم غير المباشر متغيرة بتغير سعر صرف الدولار، وكلفتها الحقيقية تزداد بزيادة الحاجة إلى القطع وزيادة أهمية الاحتياطي مع تراجع كمياته. يهدف تمويل المستوردات بالقطع إلى المحافظة على مستوى الأسعار ثابتاً نسبياً بعيداً عن تأثير تغيرات سعر الصرف، بحيث يتكلف المستوردون بدولار منخفض لتتحمل الدولة فارق سعر الدولار. لتستخدم خسارة الحكومة من القطع في دعم القوة الشرائية لليرة السورية والدخل الحقيقي للمستهلكين.

جدوى هذا الشكل من الدعم يقيم بمستوى تحقيقه لهدفه أي ثبات لسعر المادتين في السوق، وهو ما لم يتم، حيث بقي السعر مرتفعاً مع ارتفاع أسعار الصرف. مايعني أن الحكومة تقدم الدعم للتجار على شكل قطع لينعكس على أسعار الاستهلاك وعلى قيمة الليرة الشرائية وهي العملية التي لا تتم..

تمويل المستوردات «أكثر كلفة» من دعم كلي..

تتشكل حصة الحكومة من عرض السكر والرز كما تشير بيانات دعمها للمادتين إلى أن حصتها من السوق تعتمد تقليدياً على تأمين حد الاستهلاك الضروري المقدر وفقاً لحاجة الفرد إلى 1كغ من السكر شهرياً، و 0،5 كغ من الأرز شهرياً. أما العرض المتوفر في السوق فيتجاوز بالتأكيد الكميات الحكومية بمشاركة القطاع الخاص الهامة بعملية الاستيراد. سنعتمد في تقدير  كميات عام 2012 على بيانات صدرت من الجمارك وعلى الأرقام الدقيقة لحجم الاستهلاك الطبيعي في عام 2010.

الدولة ونسبتها من العرض

تشير بيانات من الجمارك بأن كميات الأرز المستوردة في عام 2012 بلغت 163 ألف طن لبند الأرز المضروب جزئياً، ولا يمكن اعتبارها تقديراً دقيقاً لكامل الكميات المستوردة عادة من الأرز والتي بلغت في عام 2010 382 ألف طن أرز مقشور وأرز مضروب جزئياً، والتي سنعتمدها كتقدير لكميات الاستيراد الكلي العام والخاص. أما بالنسبة لكميات السكر فتشير البيانات ذاتها للاستيراد في عام 2012 بأن الكميات المستوردة من السكر بلغت 466 ألف طن.

حصة استيراد الحكومة من إجمالي المستوردات كبيرة نسبياً لكل من  مادتي الأرز والسكر. حيث تبلغ نسبة 35% لمادة الأرز، بينما تبلغ 63% لمادة السكر. على الرغم من حصة الحكومة الكبيرة من السوق وتوزع دعمها بين الدعم المباشر والدعم غير المباشر الذي تقدمه الحكومة للمستوردين. لا تستطيع أن تؤثر جدياً على سعر السوق.

بالتالي فإن المستوردين يتكلفون بدولار منخفض لتتحمل الدولة فارق سعر الدولار، بالمقابل فإن سعر البيع للمادتين تغير بين أعوام الأزمة بنسبة تغير باقي المواد. مايعني أن الحكومة تقدم الدعم للتجار على شكل قطع لينعكس على أسعار الاستهلاك وعلى قيمة الليرة الشرائية وهي العملية التي لا تتم..

تقييم جدوى تمويل المستوردات على السعر

يفقد دعم المستوردات مع هامش الربح التجاري دوره في استخدام الاحتياطي لتحسين القوة الشرائية لليرة والدخل الحقيقي للمواطن. لذلك فإن هذه السلع «المتبانة» حكومياً بالدعم المباشر وغير المباشر تفقد جزءاً هاماً من دعمها.. حيث تراوحت أسعار الأرز في السوق بين 60-100 ل.س بمتوسط يفوق 85 بالسوق خلال عام 2013 بينما كانت أسعار السكر تتراوح أيضاً بين السعرين  أيضاً بمتوسط 75 ل.س

ليبتعد سعر السوق لمادة الأرز عن كلفة الاستيراد (المغطاة بالدولار) بمقدار 20 ل.س للكغ، بينما لا يبلغ في حالة السكر مقدار 10-15 ل.س. إلا أن الأهم من هذا وذاك هو فرق السعر بين السعر الحكومي المدعوم مباشرة وسعر السوق المدعوم بالقطع.

ماذا لو..؟

ماذا لو توقفت الحكومة عن تمويل المستوردات بالقطع، وغيرت شكل الدعم غير المباشر إلى الشكل المباشر، يدفعنا هذا التساؤل إلى المقارنة بين  كلفة الدعم في حال قامت الحكومة باستيراد كل الكميات وبيعها كاملة بالسعر المدعوم 15 ل.س، وبين تكلفة القطع الذي يمول المستوردات وحصة القطاع الخاص..

إن تمويل الحكومة لمستوردات القطاع الحاص فقط من مادتي السكر والرز أي نسبة 65% من كميات استهلاك الأرز، ونسبة 37% من كميات استهلاك السكر فقط تكلف من القطع ما يعادل قيامها باستيراد الكميات كاملة وتقديمها بسعر 15 ل.س. ومع تغير أسعار الصرف فإن الكلف التي تدفعها الحكومة بالليرة السورية لتدعم مباشرة استهلاك المواد الغذائية أخف تكلفة من الكلف التي تدفعها الحكومة لتمويل المستوردات بالدولار وذلك مع اتجاه سعر الصرف نحو الارتفاع وتراجع كميات الاحتياطي،

مايدفع للاستنتاج بأن تمويل المستوردات يهدر القطع ولا يحقق الغاية المرجوة منه ومع الوقت يصبح دعم جميع كميات الاستهلاك وتوفيرها من الدولة، أقل تكلفة وأكثر جدوى من حيث التأثير على أسعار المواد الاولية الضرورية، والمحافظة على القوة الشرائية لليرة السورية.

«تجربة السكر والرز.. نواة لدعم جديد»

تجربة السكر والرز كمواد غذائية مدعومة مباشرة، تشير إلى أنها طريقة أكثر جدية للدعم، وأكثر ثباتاً، فحصة الدولة الكبيرة من سوق السكر ترتبط بهامش ربح تجاري أقل وبالتالي بقدرة أكثر على تثبيت الدعم للأسعار، ولكن المقارنة تظهر أن تقديم الدعم الكامل هو الطريقة الأوفر والأكثر جدوى، إذا ما كانت البدائل بتقديم القطع للمستوردين التجاريين، أو ترك السوق لترفع أسعارها بالحد الأقصى، وعليه ممكن أن نقترح التالي:

زيادة هامش المواد الغذائية المستوردة أو المشتراة من الحكومة وبيعها بسعر مدعوم، بحيث تشكل سلة غذائية حقيقية تضم أهم المكونات الغذائية وتثبت جزءاً هاماً من الدخل الحقيقي، مؤمنة بذلك الأمن الغذائي والصحي للأسر السورية.

القيام بهذه العملية يقتضي تطوير عملية التوزيع للمستهلكين وتوسيع مراكز التوزيع لتصبح العملية أسهل.

الكمية المستوردة الفائضة تقتضي المزيد من الدعم، ولكنها في المقابل تستطيع أن تحقق وفراً في العجز، عن طريق إيقاف تمويل مستوردات المادتين بالقطع.

تتحول الكميات الفائضة التي يستوردها التجار موضوعياً إلى سلعة نوعية لشرائح محددة وبسعر أعلى، وسيدفع هذا التوجه تلقائياً إلى تقليص حجم استيراد القطاع الخاص لهذه المواد، وتوجيه القطع الذي يملكه إلى سلع أخرى.