التراجع عن القرارات التي دمرت الاقتصاد الوطني ضرورة ملحة.. إعادة الاعتبار لدور الدولة الاجتماعي – الاقتصادي أساس لأي إصلاح مأمول
الحديث عن إمكانية الاختراق التي يمكن أن تحققها الحكومة حالياً على المستوى الاقتصادي - الاجتماعي بزمن قصير، ما هو إلا ضرب من الخيال، حتى ولو امتلكت تلك الحكومة وأفرادها الرغبة الصادقة لذلك، فلا يصلح العطار ما أفسده الدهر، وهذا ليس من باب تبرير تقاعس الحكومة الحالية عن أداء واجباتها تجاه المواطن السوري، أو من باب تجاهل عدم فاعليتها فيتحسين المستوى الاجتماعي والاقتصادي للسوريين حتى الآن، وإنما من ضرورة عدم تجاهل جملة القرارات الحكومية الخاطئة التي خنقت الاقتصاد تاريخياً..
عنق الزجاجة
لا بد من الانطلاق في تقييم أداء الحكومة الحالية من التركة الثقيلة التي ورثتها، ومن جذور المشكلات الاقتصادية المتراكمة، والتي دون تذليلها، لا يمكن أن يجري إصلاح اقتصادي جدي، فالحديث يجب أن يجري انطلاقاً من سلسلة التراكمات التي خلفتها الحكومات المتعاقبة، والتي حفلت بالتخلي عن مكتسبات السوريين واحدة تلو الأخرى، والتي أوصلت الاقتصاد الوطنيوالمواطن معاً إلى حافة الهاوية، وإلى عنق الزجاجة..
غياب «النوايا الصافية»
الأزمات تتوالى، ولا حلول مجدية عند الحكومة، فإذا ما تحدثنا عن افتقاد استقرار الأسعار في الأسواق المحلية، نجد أن الحكومة الحالية عجزت عن إيجاد الحلول لها، والناتجة عن حالة التغييب الممنهج للحكومة عن ممارسة دورها الاقتصادي الاجتماعي تاريخياً، حيث صدر قرار إلغاء وزارة التموين في عام 2004 بعد الاستعانة بلجنة من الخبراء الفرنسيين عن إعادةهيكلية الوزارات السورية، والتي كانت إحدى ضمانات استقرار الأسعار في سورية، حتى ولو اعترفنا بأنه تخلل عملها العديد من الإشكاليات والأخطاء، فلو كانت «النوايا صافية»، لكان من الأفضل إصلاحها، وليس إلغاءها، لتنسحب بعدها الدولة من دورها كعارض حقيقي للسلع في السوق المحلية، وانسحبت من دورها في استيراد السلع الأساسية أيضاً، وبعدها جرتعمليات انفتاح اقتصادي حررت بموجبه %90 من السلع في الأسواق السورية، ليقتصر دور وزارة الاقتصاد والتجارة عندها على إعداد خارطة تأشيرة وغير ملزمة للأسعار، كما تأسست هيئة لحماية المستهلك، تحتاج هي إلى حماية بالأساس، وكانت غير ذات فاعلية في الممارسة العملية إلا على التجار الصغار (المفرق)..
ضرب هيكلية الاقتصاد
أمام هذا الواقع، الذي ضرب البنية الهيكلية الحامية للأسواق وللاقتصاد السوري، ترتفع أصوات البعض للمطالبة بضبط الأسواق، وهي في جوهرها لا تتعدى كونها دعوة شكلية على قاعدة «ذر الرماد في العيون»، لأن المطلوب لضبط الأسواق بشكل جدي، هو إعادة الاعتبار لدور الدولة الاجتماعي – الاقتصادي، والتركيز على دورها التدخلي وتعزيزه بدلاً من طرح إلغائه،وإعادة وزارة التموين لكي تمارس دورها الرقابي – التدخلي في ضبط الأسواق، وهذه هي وحدها الخطوات الكفيلة بضبط الأسواق، ودون ذلك سيبقى «الفلتان» في الأسواق سيد الموقف..
ما ينطبق على الأسعار، ينسحب على كامل القطاعات الاقتصادية السورية، فالزراعة جرى تدميرها بشكل ممنهج، عبر جملة من القرارات الخاطئة، وجرى تهميشها، عبر إلغاء الدعم عن الفلاح، وتقليص هامش أرباحه، وتركه عرضة للابتزاز، وتحت سطوة منافذ التسويق الداخلية الكبرى، واليوم يأتي من يطالب ذلك القطاع بتحقيق الاكتفاء الذاتي؟! غير راغبين في تقبلفكرة، أنه دون التراجع عن جملة القرارات التي أضرت بالزراعة السورية، لن يكون للزراعة دورها المحوري في الاقتصاد الوطني، وتحقيق الاكتفاء الذاتي، وضمان الأمن الغذائي، وما ينطبق على الزراعة، ينسحب على الصناعة السورية أيضاً، فمع اشتداد العقوبات الاقتصادية، تعالت أصوات البعض مطالبين بإعادة الاعتبار للمنتج الوطني، وهذا ضروري دون شك، إلاأن هذا المنتج الذي جرى خنقه برفع الدعم، وإدخاله بمنافسة غير متكافئة مع البضائع الأجنبية والمستوردة في الماضي القريب، لا يمكن أن ينهض اليوم استجابة لرغبات البعض، لتجاوز أزمة حالية، وإنما كان المطلوب تعزيز هذا القطاع وتطويره، أو الحفاظ عليه بالحد الأدنى، فكم من الصناعات اندثرت، وكم من المصانع أغلقت بعد قرارات حكومية خاطئة؟!
المطلوب اليوم خطة شاملة على مستوى الاقتصاد السوري، تنطلق من قناعات راسخة بضرورة الاعتماد على الإمكانات الذاتية للاقتصاد الوطني، وتكوين صناعات رئيسية تكون فيه زراعتنا مدخلاته الرئيسية، لنطبق فعلاً مقولة «نأكل مما نزرع ونلبس مما ننسج»، والعقوبات الحالية فرصة حقيقية لتنمية صناعتنا الوطنية إذا أحسن استخدامها، رغم تشكيكنا بإمكانيةاستغلالها من جانب القائمين على الاقتصاد الوطني حالياً، في القطاعين العام والخاص.