هل يحتاج إصلاح القطاع العام لكل هذه الدراسات؟
عندما كان القطاع العام يشكل قاطرة النمو في سورية وكان يساهم وحده بـ حوالي 75% من الناتج المحلي السنوي، لم يترك الفاسدون داخله و الطفيليون خارجه وسيلة إلا واستخدموها لنهبه وتخسيره لتلك الدرجة التي أصبح فيها بعض المسؤولين ذوي النزعة الليبرالية يتباهون بمساهمة القطاع الخاص بـ حوالي 65% منالناتج المحلي، هاهي الآن وأمام ما يتعرض له اقتصادنا من ضغوطات خارجية كبرى أصواتهم تعلو من أجل دعم القطاع الخاص، وتوفير كل الإمكانيات لمساعدته، كونه كما يقول البعض« أمام لحظة تاريخية يمكن اعتبارها بمثابة فرصة سانحة لتحسين واقع الصناعة و المنتج السوري وبالتالي لعب دور فاعل في دعم المناخ الاستثماري خاصة أن الاستثمارات هي الحامل الحقيقي للتنمية الاقتصادية».
ومما لا شك فيه بأن التهديدات التي يتعرض لها اقتصادنا كبيرة، فالعقوبات جدية والتأثيرات السلبية أمامه ضخمة، ولكن السؤال الكبير الذي يطرح نفسه هنا: هل يستطيع القطاع الخاص وحده أن يواجهها رغم المرونة التي يتمتع بها والتسهيلات التي ينالها، ثم ألا يجدر بنا أن نحشد كل الإمكانيات المتاحة لنا بما فيهاإمكانيات القطاع العام لمواجهة هذه التحديات الهائلة التي يتعرض لها اقتصادنا.
لقد طالب أحد الصناعيين الحكومة بأن تصغي لهم كونهم «قادرين على التكيف مع الأزمة الحالية والنهوض مجدداً بقوة كفعاليات اقتصادية وطنية»، مشيراً إلى أن الصناعيين أمام معاناة من الخسائر، ولكنهم مستعدون للتحمل والصبر من أجل مصلحة الوطن.
هنا لابد من الإشارة إلى بعض الملاحظات والحقائق عن واقع الإنتاج الصناعي للقطاع الخاص التي يجب أخذها بعين الاعتبار عند إيجاد الحلول لهذه التحديات التي يتعرض لها اقتصادنا، وهي:
أولاً: لقد قامت الحكومات المتعاقبة، بما فيها السابقة والحالية، بمنح القطاع الخاص تسهيلات هائلة وضخمة، كالإعفاء من الضرائب أو تخفيضها وخاصة الرسوم الجمركية على مدخلات الإنتاج المستوردة وإعطائه تسهيلات عديدة في مجال الاستيراد والتصدير،وسن قانون جديد للعمل مشغولا على قياسه ومصلحته ، كل ذلكعلى حساب القطاع العام الذي كان وما زال مكبلا بقيود لا أول لها ولا آخر، كما فتحت له الأبواب الواسعة وسمحت له بالدخول إلى البنية التحتية والاستثمار فيها وخالفت الدستور السوري مخالفات صريحة من أجل تمكينه من ذلك، وخصوصا في مجال التعليم والصحة وربما لاحقا الكهرباء والطرق وغيرها ، ورغم كلالتسهيلات التي قدمتها الحكومات للقطاع الخاص وبسبب تراجع الدولة عن سياسات دعم الصادرات الصناعية وفتح باب الاستيراد على مصراعيه له عبر ما يسمى بـ«سياسة الانفتاح»، أضحى الميزان التجاري بدءاً من عام 2004 خاسراً، وكانت مستوردات القطاع الخاص هي السبب الرئيسي لهذه الخسارة التي بلغت226مليار ليرة في العام 2009.
ثانياً: صحيح أن الحكومة السابقة من خلال الإجراءات التي اتخذتها، وكان على رأسها رفع أسعار المحروقات قد أدت إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج، وخصوصاً في المجال الصناعي لكن واقع حال إنتاجنا الصناعي يقول بأن صناعتنا وما ينتجه القطاع الخاص من سلع تتسم بسمة أساسية بل يمكن تسميتها بما يسمى « صناعةاللمسة الأخيرة »على عكس إنتاج القطاع العام « صناعة النسيج مثالا »، وهذا لا يشمل الصناعات البسيطة فقط كالعلكة والمساحيق ومعجون الأسنان، بل يشمل أيضا صناعة البرادات والغسالات والأدوات الكهربائية التي تعتمد في مدخلات إنتاجها على الكثير من المواد المستوردة الخام ونصف المصنعة والمصنعة خارجيا،والتي قد تتوقف جزئيا أو كليا في حال تنفيذ العقوبات التي تهدد اقتصادنا.
ثالثاً: من المعروف أن القطاع الخاص الرأسمالي في كل الدنيا يسعى إلى الربح فقط، وإلى الربح السريع متى تمكن منه، ولو تم ذلك على حساب الجودة من جهة وعلى حساب المستهلك من جهة أخرى، وهذا ما يفسر ارتفاع أسعار الكثير من السلع في السوق الداخلية عن أسعارها العالمية نتيجة احتكارها من بعض المستوردينالذين يسيطرون على عملية الاستيراد، ولا يسمحون لغيرهم لولوج هذا الباب تحت طائلة الإقصاء القسري منه في غالب الأحيان، وكمثال على ذلك تأكيد وزارة الزراعة أن المؤسسة العامة للأعلاف تملك احتياطياً استراتيجياً من المادة العلفية يسمح لها بالتدخل الإيجابي في ضبط الأسعار المحلية وتوفير المادة لحين توفرالعلف الأخضر، وأن أسعار المؤسسة تقل عن أسعار السوق المحلية بالنسبة للخلطة العلفية والمركزات المقدمة للمربين بنحو 4 إلى 5 آلاف ليرة سورية لكل طن، ثم أليست أسعار السكر والأدوية الحشرية والأسمدة الزراعية أمثلة أخرى على ذلك.؟
رابعاً: حول ما يقال بأن التاجر السوري شاطر، وبإمكانه تدبير شؤونه بنفسه لأن لديه الخبرة في التعامل مع الأسواق المحلية والأجنبية، وبالتالي فإن مسألة الثقة بالتاجر والقطاع الخاص موجودة، وذلك على ضوء ما أظهره القطاع الخاص منذ سنوات من تطوير للاقتصاد السوري، فإن تجربة تسديد قروض بعض دول أورباالشرقية بمنتجات صناعية داخلية والإساءات التي قام بها بعض المنتجين من ذوي النفوس الضعيفة من خلال الغش والتدليس للمنتجات السورية ماثلة للأذهان، ويجب عدم نسيانها بهذه السهولة.
خامساً: يجب ألا يفهم من الملاحظات الواردة أعلاه أننا نقف ضد مساهمة القطاع الخاص في مواجهة التحديات التي تعترضنا، ولكن إذا كانت الحكومة جادة في مواجهة هذه المحنة - كما يقول وزير الاقتصاد- من خلال ترك القطاع الخاص يعمل لأنه يعمل بكفاءة أكبر من الحكومة ولديه روح المغامرة وحساباته الخاصةوالجرأة واتصالاته والقدرة والمرونة على التحرك، فماذا فعلت، وماذا ستفعل من أجل تقوية ودعم وتسهيل الأمور للقطاع العام الذي كان ومازال وسيبقى أحد الدعائم الكبيرة لاقتصادنا، والذي لا تستقيم إعادة هيكلته إلا بالإسراع في إصلاح القطاع العام إصلاحاً جذرياً.
وزير الصناعة يقول إنه يتم العمل على مشروع قانون لإصلاح القطاع العام أما نائبه فيبين بأن إصلاح القطاع العام لا يتم إلا عبر حلّ المشكلات العالقة وعلى رأسها المخازين التي وصلت إلى رقم كبير بحدود 22 مليارا و400 مليون ليرة، بالتوازي مع عقدة العمالة، والسؤال الذي يجب طرحه هنا: إلى متى سنظل نسمعأقوالاً بالإصلاح لا تترافق بالأفعال؟ ثم أليست الدراسات المتكدسة فوق بعضها للإصلاحات جاهزة منذ سنوات؟ ولماذا لم تنجز الحكومة الحالية ما عليها إنجازه في هذا المجال؟؟.. أسئلة نضعها برسم الإجابة أمام حكومتنا علنا نرى طحناً ولا نسمع جعجعة فقط.