الاحتياطي النقدي خلال الأزمة.. 1/2 استهلاك الموارد المتراكمة: بلغ الحد الأقصى.. وسيتجاوزه!
تتضارب المعلومات حول حجم الاحتياطي النقدي في سورية، المحلي والأجنبي، ومستوى تراجعه خلال الأزمة، ولكن لا يختلف اثنان على أن وجوده هو أحد محددات قوة الاقتصاد السوري وقدرته على تغطية الاحتياجات السورية الرئيسية خلال الأزمة
يعتبر (الاحتياطي) إحدى أشكال الموارد المتراكمة بشكل رئيسي من الثروات النفطية السورية، موارد الحكومة، فوائض الإنتاج الزراعي والصناعي، المدخرات (بالإضافة إلى جزء من الاحتياطي متراكم من عملية طباعة العملة السورية بلا محددات اقتصادية وهو من مسببات التضخم) وغيرها من مصادر الموارد.. أهمية الاحتياطي النقدي تعود إلى كونه مخزوناً يستخدم خلال أزمات اقتصادية ووطنية كبرى، كالتي نمر بها اليوم، ومع هذا فإن رقم الاحتياطي أبقته الحكومة مكتوماً خلال الأزمة مع كثير من الأرقام الأخرى، ليبقى لنا التقدير والمقاربة كطريقة لمناقشة هذا الموضوع الهام، في محاولة (لكشف المستور)، والانطلاق إلى تقييم النتائج.
يبقى اليوم رقم الاحتياطي النقدي ومن ضمنه الاحتياطي من القطع الأجنبي لدى المصرف المركزي السوري (سراً غير معلناً)، بعد أن توقف البنك المركزي عن نشر الإحصائيات النقدية الدورية منذ عام 2011، حيث بلغ الاحتياطي الإجمالي للعملات في سورية باستثناء الذهب وفق إحصائيات البنك الدولي: 19,4 مليار دولار، وفي تصريح اكتفى حاكم مصرف سورية المركزي بالتأكيد على أن لدى سورية احتياطياً كبيراً، ولم تنفق منه إلا ما نسبته 10% وذلك في بداية عام 2013، في معرض رده على أرقام وتقديرات نشرها المركز السوري لبحوث السياسات في بداية عام 2013 مشيراً إلى أن صافي الاحتياطي الأجنبي السوري قد انخفض من حوالي 18مليار دولار عام 2010 إلى 2 مليار دولار خلال عام 2012.
سنحاول بطريقة بسيطة أن نقدر الكميات المنفقة خلال الأزمة من مجمل الاحتياطي النقدي السوري، ومن احتياطي العملات الصعبة الموجود لدى مصرف سورية المركزي لنناقش بعدها اتجاهات الإنفاق. بداية أين تنفق الجهات المسؤولة عن إدارة الاحتياطي النقدي الموارد المتراكمة..
كيف (يصرفون).. (الاحتياطي)؟!
يمكن أن نلخص استخدامات الاحتياطي النقدي (بشقيه الأجنبي والمحلي) الرئيسية في ثلاثة اتجاهات سنذكرها مع المنطق الحكومي المبرر لها: أولاً يستخدم الاحتياطي النقدي لتأمين الحاجات الحكومية الرئيسية أي لسد نفقاتها المتعددة، بحيث تستخدم الحكومة جزءاً من الاحتياطي لتمول نفقات الموازنة في كل عام عندما لا تكفي الإيرادات في الموازنة الحكومية لتغطية هذه النفقات. ثانياً تستخدم الحكومة احتياطي القطع الأجنبي (لحماية) قيمة الليرة السورية عن طريق ضخه في الأسواق وتحديداً عن طريق بيعه إلى شركات ومكاتب الصرافة، أما ثالثاً فتمول به المستوردات حيث يقدم القطع الأجنبي للمستوردين بسعر مناسب ليخفف عبء ارتفاع سعر الصرف عن كاهل المستورد الذي بدوره سيخففه عن كاهل المستهلك بتخفيض الأسعار..
سنقوم في هذا العدد بتقدير حجم الاحتياطي بالاعتماد على استخدامه الأول أي في تمويل العجز، وسنتبعه في عدد لاحق بتقدير حجم الاحتياطي المستخدم للأغراض الأخرى (الضخ في السوق، وتمويل المستوردات).
تقدير (الاحتياطي) من العجز
يعتبر استخدام احتياطي القطع الأجنبي لتمويل العجز، هو مجال إنفاق الاحتياطي الأكبر، حيث يدرج في البيانات المالية للموازنات بند (المأخوذ من الاحتياطي) ليعبر عن الجزء من العجز الحكومي الذي يمول من الاحتياطي المتراكم، حيث يمول جزء صغير بالقروض الخارجية. نستطيع انطلاقاً من رقم 19,4 مليار $ (المأخوذ من بيانات البنك الدولي حول مجمل الاحتياطي النقدي في سورية باستثناء الذهب) أن نقدر تغيرات الاحتياطي النقدي في كل عام من أعوام الأزمة، والأرقام التالية مأخوذة من البيانات المالية للموازنات الحكومية لأعوام 2012-2013-2014، حيث سنأخذ رقم (المأخوذ من الاحتياطي) ونعدله بسعر صرف نهاية كل عام، لنطرحه من مجمل الاحتياطي النقدي من العام السابق له، اعتباراً من عام 2010 حيث سنعتمد مبلغ 19,4 مليار $.
2011: المأخوذ من الاحتياطي: 167,488 مليار ل.س/ قيمتها بالدولار:
3,349 مليار$ (سعر صرف عام 2011 50ل.س/$)
الاحتياطي النقدي في بداية عام 2012: 16 مليار$
2012: المأخوذ من الاحتياطي: 528,929 مليار ل.س/ قيمتها بالدولار:
7 مليار$ (سعر صرف نهاية عام 2012: 75 ل.س/$)
الاحتياطي النقدي في بداية عام 2013: 9 مليار $
2013: المأخوذ من الاحتياطي: 744,83 مليار ل.س/ قيمتها بالدولار:
4,9 مليار$ (سعر صرف نهاية عام 2013: 150 ل.س/$)
الاحتياطي النقدي في بداية عام 2014: 4,1 مليار $
بناء على الاستخدام الأول للاحتياطي النقدي، لسد عجز الحكومة في تأمين مستزماتها فإن الاحتياطي السوري قد تراجع خلال 3 أعوام بمقدار 15 مليار $، من 19 مليار إلى 4,1 مليار $ في بداية ام 2014.
وإذا ما أخذنا أرقام موازنة 2014 لنقدر أين يتجه الاحتياطي فإن النتائج تشير إلى أن ما تبقى من احتياطي القطع الاجنبي لن يكفي لتغطية نفقات 2014 فبحسب موازنة الحكومة:
2014: المأخوذ من الاحتياطي: 506 مليار ل.س+ 400 مليار للدعم وتثبيت الأسعار وضعت خارج الموازنة إذا ما انفقت جميعها فإن المأخوذ من الاحتياطي سيفوق 900 مليار ل.س/ قيمتها بالدولار: 6 مليار $ (سعر صرف 150 ل.س/$) وهي تفوق ما تبقى من الاحتياطيات النقدية..
ملاحظة ضرورية
ينبغي الإشارة إلى أن هذا التقدير يدل على الاتجاه فقط وهي أرقام تأشيرية، وذلك لأن مستوى إنفاق المبالغ المأخوذة من الاحتياطي تعتمد على مستوى تنفيذ بنود الموازنات، فقد تخطط الحكومة في بيانات موازنتها بأنها ستنفق مبلغ 1038 مليار ل.س كما في موزانة 2012، ولكنها لا تنفق فعليا سوى 474 مليار ل.س أي نسبة تنفيذ أقل من النصف، ولكنها بالمقابل تخطط للحصول على إيرادات بمقدار 797 مليار ل.س، ولكنها لا تحصل إيرادات فعلية سوى 174 مليار ل.س أي نسبة تنفيذ تبلغ 22% فقط، وبالتالي قد تخفض الحكومة الإنفاق ولكن إيراداتها تنخفض أيضاً ويبقى العجز كبيراً، والسحب من الاحتياطي كذلك، ولكنه مع ذلك يشمل جميع استخدامات احتياطي العملات الأجنبية الرئيسية، فهو يضم نفقات الاستيراد الحكومي، ونفقات الدفاع المتزايد خلال الأزمة، وكذلك كافة النفقات الاستثنائية.
تراجع الإنفاق الحكومي الكبير في المجال الاستثماري، وتراجع المنفذ من النفقات الاستثمارية بنسب أكبر من النفقات الجارية، سيقابله بالتأكيد تراجع كبير في الإيرادات، التي لم تحصل إلا من المواطنين لتتحول إيرادات مبيع المشتقات النفطية إلى أهم موارد الحكومة المتوقعة في عام 2014..
المؤشرات الاقتصادية خطيرة.. والسياسية كذلك
إن وصول العجز في موازنة 2014 إلى نسبة تفوق 46% من الناتج الإجمالي المقدر لعام 2013 بحوالي 12 مليار دولار،هو مؤشر خطير على قدرة الدولة الاقتصادية، وهو ما سيجعلنا في موقع هش وضعيف، عندما يبدأ استحقاق إعادة الإعمار والبناء، لنفتح أيدينا إلى الهواء ونقول: "خلص الاحتياطي بالأزمة".. لا تزال الفرصة سانحة نسبياً لإيقاف الهدر والبحث عن الموارد، إلا أن خصخصة قطاعات سيادية كبرى، واستكمال هدر الاحتياطي الأجنبي بتمويل المستوردات، هي مؤشرات سلبية على أداء الحكومة في الوقت المتبقي قبل الاستحقاقات الكبرى. فعلى الرغم من تقشف الحكومة في نفقاتها خلال الأزمة إلا أن تحصيلها للموارد كان بمعدلات أبطأ ولم تبحث عن موارد بديلة، أو تعلن النفير في مواجهة ارتفاع مستوى العجز إلى مستويات غير مسبوقة، لتبحث عن الموارد بطرق أخرى مشروعة كالموارد المتراكمة لدى كبار الفاسدين وأصحاب الربح. استمرت الحكومة بإنفاق الاحتياطي السوري المتراكم لدى جهاز الدولة، بل عملت بعض سياسات إدارة الاحتياطي النقدي على تحويل جزء هام من هذا الاحتياطي من الدولة إلى كبار قوى السوق، وهو ما سنبحثه في الملف اللاحق.
الدردري وسياسة الهدر.. (الشيء بالشيء يذكر)
أعلنت الحكومة السورية موافقتها على زيادة تمويل المصرف المركزي لمستوردات التجار، والتي يمولها من احتياطي القطع الأجنبي المتبقي لديه. كنا قد قيمنا سابقاً تمويل المستوردات باعتباره هدراً لجزء هام من احتياطي العملات الصعبة التي تعود ملكيتها للسوريين كافة، وتحديداً إن تمويل المستوردات لم يؤد غرضه في تخفيض أثر ارتفاع سعر الصرف على ارتفاع المستوى العام للأسعار.. هذا القرار ليس الأول من نوعه بل هو استكمال لسياسة هدرت الكثير من الاحتياطي النقدي السوري، ولم تحسن إدارته خلال الأزمة، وهي تستمر بتخسير الاقتصاد السوري إحدى أهم نقاط قوته وقدرته على الاستمرار بالحدود المقبولة بالقياس بأزمة من هذا الحجم، واقتصاد دولة صغيرة كسورية.
تذكرنا هذه السياسة بمقولة لعبد الله الدردري النائب الاقتصادي السابق وعراب الليبرالية السورية، ذكرها في لقاء أجراه معه موقع "the SyriaPage" قبل عام من الآن، بتاريخ 16-2-2013 عندما حسم أن سورية ستحتاج إلى قروض دولية لإعادة الإعمار، وأكد أن البنك الدولي جاهز.. ولا يمكن بعد الأزمة أن ترفض سورية إملاءاته وشروطه بعد أن خسرت نقاط قوتها حيث قال: »عملياً خسرت سورية مواصفات كانت تمتلكها، فكان لديها أقل مديونية بالعالم، وعجز الموازنة 1,7 % سيقفز الى 16% أما العملات الأجنبية فانتهت أو ذهب ثلاثة أرباعها، لكن هذه الأمور انتهت، كيف سنقوم بالأعمار إن لم نستدن؟! في النهاية فإن الكثيرين يخافون من شروط البنك الدولي لكن الواقع يقول إننا لانستطيع الإعمار دون قروض« فسوء إدارة الاحتياطي النقدي والعملات الصعبة تحديداً، يؤدي إلى خسارة واحدة من محددات القوة الاقتصادية وامتلاك القرار، ولهذا سنعمل على تقدير خسارتنا من الاحتياطي النقدي خلال أعوام الأزمة أولاً، لنستكملها لاحقاً بتقييم لطرق إدارته في ملف لاحق..