استراتيجية الأمن القومي الأمريكية الجديدة تهز أركان الناتو
في سابقة غير مألوفة كسرت البروتوكول المعتمد في واشنطن، صدرت الاستراتيجية الأمريكية للأمن القومي بلا خطاب رئاسي يعلن ملامحها، ولا مؤتمر صحفي يفسّر توجهاتها كما جرت العادة لعقود. وهو ما قد يشير إلى وجود خلافات داخلية حول مضمونها بين تيارات الإدارة الأمريكية المختلفة. مع ذلك، أحدثت الوثيقة وقعاً صاعقاً على حلفاء الولايات المتحدة، ولا سيما الاتحاد الأوروبي، الذي جاءت مخاطبة إياه بلغة تجمع بين التأنيب والتوجيه. ورأى كثير من المحللين أن هذه الوثيقة قد تكون البداية العملية لنهاية الناتو بشكله التقليدي.
ما الجديد في استراتيجية الأمن القومي الأمريكية؟
تبدو الولايات المتحدة اليوم، كحال الإمبراطوريات في مراحل أفولها وتراجع مواردها، مقبلةً على انكماش تدريجي في حضورها الدولي. وتشير وثيقة استراتيجية الأمن القومي الجديدة إلى هذا التحول بوضوح، إذ تعلن أن واشنطن ستعود إلى التركيز على «مصالحها القومية الجوهرية»، خلافاً للمرحلة التي تلت الحرب الباردة حين توسعت الولايات المتحدة إلى حيث أمكنها الوصول. وتعلن الاستراتيجية عودة صريحة إلى مبدأ مونرو، بحيث يصبح نصف الكرة الغربي في الأمريكيتين مركز الاهتمام الأساسي.
وتتجلى ملامح هذا الانكماش في إسقاط كوريا الشمالية من الوثيقة بالكامل، وفي خفض درجة الاهتمام بالشرق الأوسط ــ الذي شكّل أولوية أمريكية لأكثر من نصف قرن باعتباره مصدر الطاقة العالمي ــ عبر إيكال ترتيباته لإسرائيل والإمارات لضمان المصالح الأمريكية هناك وعدم وقوعه بيد المنافسين. أما الصين، فتتجه واشنطن نحو خطابٍ أكثر واقعية، فالمعلن هو رغبتها في شراكة اقتصادية معها بدل المواجهة المباشرة، بينما جاءت الصدمة الكبرى لدى الحلفاء الأوروبيين عبر الأطلسي.
العلاقة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة: إلى أين؟
تقدم الاستراتيجية صورة قاتمة لمكانة أوروبا في حسابات واشنطن، فتصفها بأنها حليف يعاني من «ركود اقتصادي وتسليح غير كافٍ»، وأنها فقدت الكثير من وزنها العالمي بعد أن انخفضت حصتها من الناتج العالمي من 25% عام 1990 إلى 14% اليوم. وتشكك الوثيقة بأن بعض الدول الأوروبية ستمتلك مستقبلاً اقتصادياً أو عسكرياً يسمح لها بالبقاء حليفاً موثوقاً في الناتو. إذ تقول الاستراتيجية إنه «من المرجح جداً أن تصبح أغلبية أعضاء الناتو من غير الأوروبيين في غضون بضعة عقود على الأكثر»، داعيةً الاتحاد إلى التخلي عن فكرة توسع الناتو في القارة الأوروبية بلا نهاية ومشددةً على أن أولوية الولايات المتحدة هي «إرساء الاستقرار الاستراتيجي مع روسيا» خلافاً للتوقعات غير الواقعية للشركاء الأوروبيين.
وتشن الاستراتيجية هجوماً مباشراً على الاتحاد الأوروبي، معتبرةً أن استمرار سياسات الهجرة سيغيّر وجه القارة خلال أقل من عشرين عاماً، ومبدية إعجاباً واضحاً «بالأحزاب الوطنية» التي تمثل عملياً اليمين المتطرف إلى الفاشي، وهي أحزاب يرى محللون أنها تهدد بفتح الباب أمام اضطرابات اجتماعية وعنصرية تعيق أي تحول اقتصادي–اجتماعي إيجابي في أوروبا.
أما بشأن أوكرانيا، فتبدو الاستراتيجية متناقضة؛ فهي تدعو إلى وقف سريع للأعمال العدائية من أجل استقرار الاقتصاد الأوروبي ومنع توسع الصراع، لكنها في الوقت نفسه توبّخ الأوروبيين على «افتقارهم إلى الثقة بالنفس» في مواجهة روسيا، رغم تفوقهم عليها في معظم عناصر القوة الصلبة باستثناء النووي. ويتكامل هذا مع ما نشرته رويترز عن إبلاغ مسؤولين أمريكيين لنظرائهم الأوروبيين بأن على أوروبا تحمل الجزء الأكبر من الدفاع التقليدي للناتو بحلول 2027، وإلا فإن الولايات المتحدة ستتوقف عن المشاركة في بعض آليات التنسيق الدفاعي.
هل يكون الحلفاء الأوروبيون أكبر القرابين على مذبح الأزمة العالمية؟
يطيب للولايات المتحدة ما نتج عن الحرب العالمية الثانية عندما خرجت معظم البلدان منهكة إلا هي. فماذا لو استمرت حرب الاستنزاف بين أوروبا وروسيا، بما يضعفهما معاً، فيما تلعب واشنطن دور الوسيط الممسك بخيوط اللعبة، ويظهر ترامب بمظهر «راعي السلام»؟
بدأ التمهيد لهذا المسار بتحطيم خط نورد ستريم 2، الذي كان يربط روسيا بأوروبا ويوفر واحدة من أهم ركائز القدرة التنافسية الأوروبية عبر الطاقة الرخيصة. وبعد زيادة اعتماد أوروبا على الطاقة الأمريكية، باتت واشنطن تستخدم الحرب في أوكرانيا لاستنزاف روسيا دون أن تكون لاعباً أساسياً بل مجرد وسيط يستفيد من إضعاف أهم حليف للصين.
مع ذلك قد تدفع الضغوط الأمريكية بعض الحلفاء الأوروبيين إلى خيارات خارج الحسابات الأمريكية تماماً، وعلى رأسها التقارب مع الصين وربما روسيا، خاصة مع تفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية، وتراجع مكانة الدولار، وتقلّص قدرة واشنطن على البلطجة العسكرية كما في السابق. وفي ظل هذه الظروف، تبدو حاجة الولايات المتحدة إلى «قرابين» جيوسياسية أشدّ إلحاحاً، الأمر الذي قد يفسّر فتور حماسها تجاه استمرار الناتو بصيغته الحالية، واعتبار بعض الشركاء الأوروبيين المرشحين الأنسب لتحمل التكلفة. غير أنّ وجود إرادة سياسية وشعبية أوروبية جديدة للتعاون في القارة قد يحوّل نتائج هذه العدوانية الأمريكية إلى عكسها، ويدفع القارة نحو إعادة صياغة خياراتها الاستراتيجية خارج المظلة الأمريكية، للمرة الأولى منذ عقود.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1255
ديما النجار