المهاجرون في بنية الطبقة العاملة في المركز الإمبريالي
ديما النجار ديما النجار

المهاجرون في بنية الطبقة العاملة في المركز الإمبريالي

في أكتوبر 2025 صرّح المستشار الألماني فريدريش ميرتس بأن ألمانيا «تعاني من مشكلة بسبب المهاجرين»، فوجودهم “يشوّه المنظر الحضاري” للمدن الألمانية. وعلى الضفة الأخرى من الأطلسي لجأ دونالد ترامب إلى الأسلوب نفسه حين سخر من العمدة المنتخب زهران ممداني بالقول: إنه «يأكل بيده»، في محاولة لاستدعاء خطاب «لا يشبهوننا» و»ليسوا منّا» لإجهاض أي حركة اجتماعية موحدة قد تتبلور حول الألم الطبقي المشترك. هاتان العبارتان تكشفان آلية مألوفة في دول المركز الإمبريالي: استخدام الانقسام العنصري ـ الثقافي لتعطيل تلاحم الطبقة العاملة.

في هذا المقال سنقف عند مثالين من ألمانيا والولايات المتحدة لتتبّع تطور مجتمعات المهاجرين وأولئك الذين يُقدَّمون دوماً بوصفهم «الآخر» بالنسبة لـ «الرجل الأبيض المتحضّر» وتحليل وزنهم المتصاعد في البنية الفعلية للطبقة العاملة المعاصرة.


الولايات المتحدة الأمريكية


منذ وصول المستعمرين الأوروبيين إلى القارة الأمريكية جرى تدمير البنية السكانية الأصلية عبر استراتيجية الإبادة والاستبدال. تقدر المراجع المختلفة بأنه من أصل 5 ـ 15 مليون نسمة من السكان الأصليين عام 1492 بقي 250 ألف بحلول عام 1900. وعلى أنقاض هذه الإبادة أُقيم نظام استعماري استيطاني استند إلى جلب ما يقارب 12 مليون أفريقي قسراً إلى الأمريكيتين في أكبر عملية نقل عبودي في التاريخ.

لاحقاً، ومع توسع الاقتصاد الرأسمالي، طوّرت الدولة آليات جديدة لاستيراد العمالة الرخيصة تحت مسمى “العمال الضيوف”، وهم عمال يُستقدمون مؤقتاً وفق شروط مجحفة، ويُعادون عند انتهاء الحاجة، دون أي حق في الاندماج السياسي لضمان طاعتهم. ويعد برنامج براكيرو (1964–1942) لاستقدام العمال من المكسيك أبرز الأمثلة على ذلك. وهو برنامج أطلقته الحكومة الأمريكية تحت ضغط الشركات الزراعية الكبرى لمعالجة النقص الحاد في اليد العاملة أثناء الحرب العالمية الثانية، فاستُقدِم خلاله نحو4.6 مليون عامل مكسيكي. وبعد الحرب العالمية الثانية تم ترسيخ الهجرة كحجر أساس لسوق العمل في الولايات المتحدة، خاصة عبر آليات تسهيل هجرة العقول، التي كانت تلاقي إقبالاً كبيراً لا سيما بعد خلق الأزمات في بلدان العالم في الجنوب والشرق.
ومع تصاعد النضال العمالي وحركات الحقوق المدنية، انتزع كثير من هؤلاء العمال وأبنائهم حقوق المواطنة الكاملة. لكن حتى الأجيال التالية منهم لا زالوا يعانون من العنصرية البنيوية المترسخة تاريخياً. تشير بيانات مكتب إحصاءات العمل الأمريكي لعام 2023 إلى أن نحو 44.5٪ من قوة العمل هم إما مولودون خارج الولايات المتحدة، أو مولودون داخلها، لكن من أصول غير بيضاء، إما لاتينية، آسيوية، أو أفريقية. ولا تشمل هذه النسبة ذوي الأعراق المختلطة.


ألمانيا


بعد الحرب العالمية الثانية وهزيمة ألمانيا النازية، بدأت عملية إعادة الإعمار ومشروع مارشال، ويُقدَّم ذلك اليوم كـ “المعجزة الألمانية”. لكن ما يُغفَل عادة هو أنّ هذا الازدهار قام على أكتاف «العمال الضيوف» الذين استقدمتهم ألمانيا لتعويض النقص الهائل في اليد العاملة. فبين عامي 1955 و1973 دخل نحو 14 مليون عامل (استقر منهم 2.7 مليون فقط) من تركيا وإيطاليا وإسبانيا واليونان والمغرب والبرتغال، في برامج صيغت على نموذج شبيه ببرنامج براكيرو الأمريكي: عمالة رخيصة، مؤقتة، ومحرومة من الحقوق السياسية.

المرحلة الثانية للهجرة الواسعة جاءت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في ديسمبر 1991، حين لعبت ألمانيا دوراً مركزياً في تفكيك يوغسلافيا، من الاعتراف المنفرد بكرواتيا وسلوفينيا إلى المشاركة في قصف الناتو لصربيا. وقد تلا هذا الخراب نزوح يقارب 900 ألف لاجئ إلى ألمانيا. ثم جاءت موجات أخرى مع توسع الاتحاد الأوروبي شرقاً، ومع تدمير العراق وسورية وأفغانستان، وأخيراً حرب الناتو في أوكرانيا.
وبحسب تقرير المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين لعام 2023، يشكّل ذوو الخلفية المهاجرة 24.9 مليون شخص (29.7٪ من السكان)، بمعدل توظيف 69٪. ومع وجود 45.9 مليون عامل، وبافتراض أنّ 60٪ من السكان في سن العمل، فإن نحو22.4٪ من العمالة النظامية هم من خلفية مهاجرة، وهذه النسبة لا تشمل الجيل الثالث (6% من السكان وفق Destatis) ولا العمالة غير النظامية.
وتعتمد ألمانيا على الهجرة لملء فجوات سوق العمل في ظلّ التشيّخ الديموغرافي؛ فقد أشارت تقارير عديدة، منها: رويترز، إلى أن ألمانيا مهدّدة بنقص يصل إلى 7 ملايين عامل بحلول 2035. كما تُظهر بيانات IAB أنّ كل الزيادة في التشغيل منذ 2005 تعود إلى ارتفاع التوظيف بين ذوي الخلفية المهاجرة، بينما يتراجع عدد العاملين من غير المهاجرين.
كل ذلك يقود إلى استنتاج أن تركيب الطبقة العاملة في ألمانيا تغيّر جذرياً بعد الحرب العالمية الثانية، وهو يتغيّر اليوم بوتيرة أسرع، بحيث بات العمال المهاجرون وأبناؤهم يشكّلون عنصراً مركزياً في القوة المرشحة لتخوض الصراع الاجتماعي الأشد.


هل ستقوض العنصرية فعالية نضال الطبقة العاملة في المركز؟


لم يكن استقدام المهاجرين عبر مراحل الرأسمالية الأولى سوى وسيلة للحصول على العمل العضلي الرخيص. لكن بعد التحول العميق في النمط التكنولوجي للرأسمالية مع قدوم الثورة الرقمية في منتصف القرن العشرين، وصولاً إلى ثورة الذكاء الصناعي منذ بدايات القرن الحادي والعشرين تغير الأمر. فالنمط التكنولوجي الجديد يتطلب جيلاً متمكناً من الأدوات التقنية الحديثة. هذا الأمر إلى جانب أزمة الشيخوخة التي تعصف بالمجتمعات الأوروبية، خلق ضغطاً منظِّماً على الدول الإمبريالية لتعديل وضع المهاجرين القانوني والتعليمي فتم منحهم الجنسية، توسيع الحقوق المدنية، الحديث عن “الاندماج”، الاستثمار في تعليم اللغة وبرامج التدريب الرقمي، وغيرها من أدوات إنتاج قوة عمل مؤهلة بهدف التعامل مع الأمر بوصفه استثمار طويل الأمد في الأجيال القادمة.

مع ذلك، لم تتخلّ هذه الدول عن العنصرية البنيوية في خطابها السياسي، فهي أحد أهم مفاتيح سيطرتها على الطبقة العاملة. وقد أشار ماركس بوضوح في مراسلاته حول المسألة الإيرلندية (عندما كانت إيرلندا مستعمرة بريطانية وحدثت هجرات منها إلى المملكة المتحدة)، أشار إلى أن تعميق “العداء بين البروليتاريا الإيرلندية المهاجرة والبروليتاريا الإنجليزية هو سرّ عجز الطبقة العاملة الإنجليزية، رغم تنظيمها، وهو السر الذي تبقي عبره الطبقة الرأسمالية على سيطرتها، وهي واعية تماماً لذلك».
اليوم، تعمل القوى اليمينية في بلدان المركز الرأسمالي على تعميق هذه التناقضات الثانوية، مطوِّرة أدوات الكراهية العرقية والثقافية لتشتيت الطبقة العاملة وإضعاف قدرتها على الفعل الجماعي. لكن اللوحة الديموغرافية تغيّرت مع ارتفاع نسبة المهاجرين في القوة العاملة، إتقان الجيلين الثاني والثالث على الأقل للغة البلد، انخراطهم المتنامي في النقابات والحياة السياسية، وحضورهم الثقافي والاجتماعي، كل ذلك يجعل استنساخ نفس أدوات السيطرة الطبقية القديمة أقل فعالية مما كانت عليه في القرن الماضي. فموازين القوى تتبدل داخل الطبقة العاملة في تلك البلدان ومستوى الوعي والتواصل يتنامى، ومعها تتبدل حدود قدرة طبقة رأس المال على استخدام العنصرية بالطرق التقليدية كسلاح طبقي يضمن نفس النتائج السابقة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1253