سقوط الفاشر: مأساةٌ جديدة في سلسلة لا تنتهي من المجازر السودانية
معتز منصور معتز منصور

سقوط الفاشر: مأساةٌ جديدة في سلسلة لا تنتهي من المجازر السودانية

في الأسبوع الماضي، تحوّلت أنظار العالم مجدداً إلى السودان، هذه المرة نحو مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، عقب أن أعلنت قوات الدعم السريع سيطرتها الكاملة على المدينة بعد حصارٍ دام قرابة 500 يوم. كانت الفاشر آخر معاقل الجيش السوداني في الولاية، وسقوطها يُعدّ ضربة استراتيجية كبرى، ويمنح قوات الدعم السريع سيطرة شبه كاملة على إقليم دارفور بأكمله.

لكن ما رافق هذا السقوط لم يكن مجرد تغيير في خطوط التماس، بل كان موجةً جديدة من الانتهاكات الجسيمة: تقارير موثّقة من منظمات دولية، تحدّثت عن مجازر داخل المستشفيات، وتصفية للمرضى، واعتداءات جنسية منهجية، وفرار جماعي للسكان الباقين خوفاً من القتل، في رحلات نزوح مروّعة استمرت لأكثر من 60 كيلومتراً مشياً على الأقدام، حتى وصل الناجون إلى بلدة الطويلة الحدودية، محملين بشهاداتٍ عن فظائعٍ لا تُحتمل.
قوبلت هذه الجرائم بموجة تنديد إقليمي ودولي واسعة، لكنها لم تكن حدثاً منعزلاً، بل حلقةً جديدة في سلسلة طويلة من المجازر التي لم تتوقف منذ اندلاع الحرب في نيسان 2023. فقد سبق لقوات الدعم السريع أن ارتكبت مجازر مماثلة في الجنينة (غرب دارفور)، واستهدفت مخيمات النازحين، وقصفت المدنيين في مدنٍ عدة بالطائرات المسيرة، بما في ذلك المطارات والموانئ.


من الصراع الداخلي إلى الحرب الإقليمية


الصراع الحالي بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) ليس مجرد خلاف على السلطة، بل هو امتدادٌ طبيعي لحالة الفوضى السياسية والعسكرية التي بدأت منذ الإطاحة بعمر البشير في أبريل 2019. فبعد سنوات من الشراكة الهشّة بين العسكريين والمدنيين، انقلب البرهان على الحكومة المدنية في أكتوبر 2021، ليُعيد البلاد إلى حكم العسكر، في حين كان «حميدتي»– الذي كان قد تم دمجه رسمياً في الجيش عام 2013 مقابل دوره في قمع التمرد في دارفور– يصعد في التسلسل القيادي حتى أصبح نائب رئيس المجلس العسكري.
لكن التناقضات بين الرجلين، حول مستقبل قوات الدعم السريع ودمجها في الجيش النظامي، تحولت تدريجياً إلى صراع وجودي، وصل ذروته باندلاع الحرب في نيسان 2023. ومنذ ذلك الحين، لم يعد الصراع سودانياً داخلياً فقط، بل تحول إلى ساحة تنافس إقليمي ودولي.


الدعم الخارجي: وقود الحرب


لا يمكن فهم مسار الحرب في السودان دون النظر إلى الأدوار الخارجية التي تغذيها. فعلى رأس قائمة الداعمين لقوات الدعم السريع تأتي الإمارات، التي لم تعد تخفي دعمها اللوجستي والعسكري، بل وتُتهم بتسهيل تهريب الذهب من مناطق سيطرة قوات الدعم السريع، خاصة في دارفور، كوسيلة لتمويل الحرب.
ومن خلفها يأتي الدور الصهيوني الهادف إلى تفتيت السودان وتحويله إلى كيانات متناحرة، بما يخدم أجندات الضغط على مصر والسعودية. وقد زاد من حدّة هذه المخاوف تصريحات «حميدتي» العلنية عن استعداده لاستهداف المطارات المصرية بالمسيرات، إذا ما دعمت القاهرة الجيش السوداني.
وفي المقابل، لعبت السياسة الأمريكية دوراً تخريبياً؛ إذ حاولت واشنطن، رعاية اتفاق جدّة لوقف إطلاق النار في أيار 2023، لكنها سرعان ما أفشلت جهودها بنفسها، حين فرضت عقوبات متساوية على الطرفين، ما دفع كليهما إلى رفض الوساطة. وبدلاً من أن تكون وسيطاً، بدا الدور الأمريكي وكأنه يسعى إلى احتكار ملف السودان دون تحقيق تقدم حقيقي، بهدف إطالة أمد الصراع بما يخدم مصالحه الاستراتيجية في المنطقة.


الفاشر ليست النهاية...بل بداية مرحلة أخطر


سقوط الفاشر لم يكن نهاية المطاف، بل جاء متزامناً مع سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة بارا الاستراتيجية، الواقعة على طريق كردفان–الخرطوم، والتي تربط الأبيض بالعاصمة. ويبدو أن الهدف الآن هو محاصرة الخرطوم من الجنوب والغرب، بعد أن فقدت قوات الدعم السريع مواقعها الرئيسية في العاصمة خلال الأشهر الماضية.
وفي ظل هذا الواقع، يعيش السودان واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم: أكثر من 25 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي، و12 مليون نازح داخل البلاد وخارجها، واقتصاد منهار بنسبة تجاوزت 40% منذ 2023. كل هذا يحدث في بلدٍ يزخر بخيرات هائلة، من ذهب ونفط وأراضٍ زراعية خصبة، لكن هذه الثروات تحولت إلى نقمة بسبب الصراع على من يملكها.
إن ما نشهده اليوم في السودان لا يمكن قراءته ضمن معطياته المحلية والصراع بين الدامي بين الطرفين، بل إن دفع السودان نحو مزيدٍ من التصعيد بات يهدد وحدة البلاد بشكلٍ حقيقي، فبعد أن انفصل السودان الجنوبي، بات المطلوب اليوم تفتيت ما تبقى، والأهم، أن مسعى كهذا وتحديداً مع ظهور البصمات الأمريكية-«الإسرائيلية» فيه- تماماً كما كانت هذه البصمات واضحة في انفصال الجنوب- يظهر بكونه محاولة جدية لتفجير القرن الأفريقي من جهة، ولكن تحويل جبهة السعودية الغربية، وجبهة مصر الجنوبية، إلى ساحة فوضى تهدد الأمن الوطني في كلا البلدين، ما يمكن النظر إليه بوصفه فصلاً جديداً من الضغط السابق، لكنه أعنف، ما يشير إلى أن ما أنجز سابقاً لم يكن كافياً بالنسبة لمشاريع الفوضى الأمريكية-«الإسرائيلية»

معلومات إضافية

العدد رقم:
1250