المقاومة الفلسطينية…سلوكٌ يستندُ لِفهم ٍعميقٍ للتوازنات الجديدة
مع استمرار الحرب الطاحنة في قطاع غزّة، يزداد ثبات المقاومة الفلسطينية التي تثبت يومياً أنّها طرف فاعل في رسم واقع جديد لا يمكن احتوائه في حدود فلسطين المحتلة، بل يتجاوز ذلك في قدرته على التأثير في سير الأحداث في المنطقة.
قدّم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مقترحاً جديداً بخصوص غزة، تحت عنوان «خطة الرئيس دونالد ج. ترامب الشاملة لإنهاء صراع غزة» مؤلفاً من 20 نقطة، في محاولة جديدة لإبقاء حضور أمريكي في الملف، بعد أن أثبتت أحداث السنوات الماضية أن الولايات المتحدة ليست طرفاً محايداً، ولا يمكن لها أداء دورٍ جديٍّ في التهدئة في منطقة غرب آسيا، ومع ذلك تعاملت الأطراف الفلسطينية والإقليمية بدرجة عالية من المسؤولية، وقدّمت ردّاً متوازناً على المقترح الأمريكي.
أبرز ما جاء في طرح ترامب
كان أبرز ما جاء في طرح ترامب كان وقفاً فورياً للحرب، وتجميد الأعمال القتالية، وتعليق جميع العمليات العسكرية، بما في ذلك القصف الجوي والمدفعي، وتجميد خطوط القتال حتى يتم الاتفاق على إجراءات الانسحاب والانسحاب [الإسرائيلي] الأولي إلى خط متفق عليه، تمهيداً لانسحاب كليٍّ، وعدم ضم القطاع.
وتجري عملية للإفراج عن الأسرى [الإسرائيليين] (الأحياء والمتوفين) مقابل إطلاق سراح فلسطينيين، يشمل إطلاق سراح 250 محكوماً عليهم مدى الحياة، و1700 من سكان غزة الذين اعتُقلوا بعد 7 أكتوبر 2023، بما في ذلك جميع النساء والأطفال المحتجزين في هذا السياق. مقابل كل رفات رهينة إسرائيلي يتم تسليمه تُطلق إسرائيل سراح رفات 15 من سكان غزة المتوفين.
وبخصوص مقاتلي حركة حماس، طرح الرئيس الأمريكي ضرورة أن «يُمنَح العفو لأعضاء حماس الذين يلتزمون بالتعايش السلمي» مع ضمان تفكيك أسلحتهم، وتوفير آليات رقابة ومتابعة للتأكد من الالتزام. ويُوفَّر أيضاً ممراً آمناً لأعضاء حماس الراغبين في مغادرة غزة إلى دول مستضيفة.
وبخصوص المساعدات، ينص المقترح على إدخال وتُوزَّع المساعدات الإنسانية بالكامل وفق اتفاق 19 يناير 2025، دون تدخل من الأطراف المتقاتلة، عبر الأمم المتحدة ووكالاتها، لضمان الوصول الآمن وغير المشروط إلى المدنيين.
وأشارت الخطة إلى أن تُناط إدارة غزة مؤقتاً بلجنة فلسطينية تكنوقراطية غير سياسية، مسؤولة عن تسيير الخدمات العامة والبلديات. تُشرف على هذه اللجنة هيئة انتقالية دولية جديدة تُسمى «مجلس السلام» برئاسة دونالد ترامب وبمشاركة، من بين آخرين، رئيس الوزراء السابق توني بلير، لتحديد الإطار والتمويل لإعادة إعمار غزة، حتى تُكمل السلطة الفلسطينية برنامج إصلاحها.
كما تطرق ترامب في مقترحه إلى ضرورة إعادة إعمار غزة، بما يخدم مصلحة أهلها الذين عانوا سابقاً؛ ولا يُجبر أحد على مغادرة القطاع. من يرغب بالمغادرة يتمتع بحرية ذلك، وحرية العودة لاحقاً، بينما يُشجَّع السكان على البقاء والمساهمة في بناء غزة أفضل.
كما يفترض أن توافق حماس والفصائل الأخرى- بحسب الخطة الأمريكية- على عدم ممارسة أي دور في حوكمة غزة، ويُدمَّر البنية التحتية العسكرية، بما في ذلك الأنفاق ومرافق إنتاج الأسلحة، دون السماح بإعادة بنائها. تتم عمليات نزع السلاح تحت إشراف مراقبين مستقلين، ويشمل ذلك برنامج جمع أسلحة مقابل تمويل دولي ومشروعات إعادة إدماج وتعويض.
كما أشار المقترح في أحد بنوده إلى إطلاق مسار موثوق لتقرير المصير الفلسطيني، وإقامة دولة فلسطينية كهدف طويل الأمد، يرافق خارطة الطريق الأمنية والإنسانية والاقتصادية.
ردُّ حماس
أعربت حركة حماس عن تقديرها للجهود العربية والإسلامية والدولية، وجهود ترامب الداعية إلى وقف الحرب على قطاع غزة، وتبادل الأسرى، ودخول المساعدات فوراً، ورفض احتلال القطاع، ورفض تهجير الشعب الفلسطيني
كما أعلنت حماس عن موافقتها على الإفراج عن جميع أسرى الاحتلال (الأحياء والجثامين) وفق صيغة التبادل الواردة في مقترح ترامب، وذكّرت الحركة بأنها تقدّمت بمقترح للإفراج عن الأسرى دفعة واحدة منذ بداية العدوان، ولكن حماس أكدت أن موافقتها مرتبطة بتوفير الظروف الميدانية لعملية التبادل، وأن الإفراج مشروط بتحقيق شرط الانسحاب من الأرض، معلنةً استعدادها الفوري للدخول في مفاوضات عبر الوسطاء لمناقشة تفاصيل هذه العملية.
رفضت حماس القبول بالبند المتعلق بالوصاية أو الإدارة الدولية، وجددت موافقتها على تسليم إدارة قطاع غزة لهيئة فلسطينية من المستقلين، ولكنّها أشارت إلى أن تشكيل هذه الهيئة الفلسطينية يجب أن يتم بناءً على التوافق الوطني الفلسطيني، ودعم عربي وإسلامي، وشددت على أن القضايا الأخرى الواردة في مقترح ترامب والمتعلقة بمستقبل قطاع غزة وحقوق الشعب الفلسطيني الأصيلة، مرتبطة بـموقف وطني جامع، ويجب مناقشتها من خلال إطار وطني فلسطيني جامع ستكون حماس ضمنه.
ورغم أن الحركة في ردّها لم تتطرق إلى قضية تسليم السلاح إلى أن أحد قيادي الحركة صرّح بأن الحركة لا ترفض تسليم السلاح، لكنّها تعتبره شأناً داخلياً يجب بحثه في البيت الفلسطيني، وتسليمه لسلطة وطنية يتم التوافق عليها.
على ماذا تستند المقاومة الفلسطينية؟
ردُّ حماس جاء بمثابة نقلة نوعية في إدارة الملف، فالحركة عبّرت في موقفها هذا عن درجة عالية من المرونة وعن جوهرِ موقفٍ فلسطيني، يبدو أنه محل توافق عام، فحاولت التمسك بالنقاط الإيجابية القليلة بطرح ترامب ووقفت موقفاً صلباً اتجاه كل السموم المدسوسة في المقترح، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: على ماذا تستند الحركة في طرحها هذا؟
البعض يرى أن حماس في موقعٍ ضعيف بالمعنى التفاوضي، وواقعة تحت ضغط كبير لإنهاء الحرب، بعد الويلات التي لحقت بالقطاع وأهله، بسبب العدوان «الإسرائيلي» وتبدو هذه الرؤية بسيطة! حماس وغيرها من فصائل المقاومة الفلسطينية، تدرك طبيعة التوازن القائم، وتتصرف وفقه بلياقةً عالية، فمن جهة يعيش الإقليم واقعاً جديداً مختلفاً عن ذلك الذي كان قبل 7 أكتوبر، وهو واقع يبدو ملائماً أكثر لدفع القضية الفلسطينية إلى الأمام، والأكثر من ذلك أن مبادرة ترامب هذه بدت بالنسبة للمقاومة الفلسطينية فرصة لطرح المهمة الملحة التي نضجت ظروف حلّها، وهي توحيد البيت الفلسطيني بكل قواه ليتحمل مسؤولياته مجتمعةً، للدفاع عن الحقوق الفلسطينية، وهو ما كان الكيان الصهيوني والولايات المتحدة يعملان على إعاقته، حتى أن أوساطاً في الفصائل الفلسطينية تدرك أن الموقف العربي العام لا يسير وفقاً لإملاءات ترامب، وهذا يعني أن الواقع الحالي يسمح بطرح الموقف الفلسطيني الصلب على الطاولة، بوصفهِ مخرجاً لا لفلسطين وحدها، بل لضمان أمن المنطقة، لتتحول وحدة البيت الفلسطيني، وإنهاء الانقسام إلى مصلحة عامة لكل الدول العربية والقوى الإقليمية الأخرى، التي ترى نفسها تحت تهديد «إسرائيلي»-أمريكي مباشر.
إن خطة ترامب بشكلها المطروح حالياً غير قابلة للتنفيذ، ولكنّها مؤشر على محدودية الخيارات المتوفرة أمام الإدارة الأمريكية، فبالنسبة لترامب وتياره في واشنطن، كان المطلوب إحداث خرقٍ يمكن أن يخل في التوازن الإقليمي في المنطقة لصالح الولايات المتحدة، وهذا الهدف لا يزال مطروحاً على الطاولة، ولا يجوز استبعاده، لكن طبيعة المرحلة فرضت أن تكون «إسرائيل» وكيلاً حصرياً لتنفيذ هذه الخطة، مما أدى إلى نتائج عكسية، وتدرك كل القوى المؤثرة في المنطقة اليوم، أن إمكانية إحداث شرخ في العلاقات البينية بين دول المنطقة الأساسية (تركيا وإيران والسعودية ومصر) لا يمكن إنجازها في ظل الظرف الحالي، فالمطلوب رفع مستويات الضغط حتى الحدود القصوى على الجميع، دون استثناء، وهو ما يمكن أن يدفع الأمور إلى حروب جديدة، لكنّه في الوقت نفسه مؤشر على ضعف قدرة واشنطن على التنكر وإخفاء نواياها الحقيقية، ما يمكن أن يُسرّع عملية الاصطفافات الدولية بالضد من المصلحة الأمريكية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1246