ما قصة التحركات الغريبة والإقالات في الجيش الأمريكي؟
تثير سلسلة من الأحداث داخل الولايات المتحدة الأمريكية- وتحديداً داخل الجيش الكثير- من التساؤلات، وخصوصاً أنّها تجري في ظل توترٍ كبيرٍ على المستوى العالمي، وازديادٍ واضح في نقاط التوتر والاشتباك، هذا فضلاً عن توترات غير مسبوقة في الداخل الأمريكي، وهو ما يفرض علينا عملاً جديّاً لفهم خلفية هذه التطورات، وكيف يمكن أن تنعكس على المشهد العالمي الملتهب؟
بدأ الرئيس الأمريكي مؤخراً باتخاذ خطوات لنشر قوات من الجيش داخل مدن أمريكية، وكان أول هذه القرارات في حزيران 2025 حين نشر الرئيس قوات من مشاة البحرية في لوس أنجلس، ثم في آب 2025 نشرت قوات الحرس الوطني في العاصمة الفدرالية واشنطن، ثم تلا ذلك في أيلول الجاري قراراً لنشر القوات في بورتلاند، لتكون بذلك رابع مدينة تُنشر فيها قوات نظامية، مع إشارات واضحة إلى إمكانية توسيع هذا الانتشار ليشمل شيكاغو ونيويورك وبالتيمور.
كيف يمكن قراءة هذه القرارات؟
يرى الرئيس الأمريكي ومجموعة من مناصريه، أن السبب وراء نشر القوات هو «مكافحة الجريمة» و«الإرهابيين المحليين» إلى جانب تكرار إشكالات مرتبطة بالهجرة غير الشرعية ومكافحة الاضطرابات، وفي حالة بورتلاند تحدث ترامب أن المدينة «دمرتها الحرب» وبات من الضروري حماية «مرافق دائرة الهجرة والجمارك (ICE) التي تحاصرها حركة أنتيفا وغيرها من الإرهابيين المحليين» بحسب تعبيره.
رداً على هذه الخطوات، بدأت أصوات المعارضين بالارتفاع، وكان أبرزهم حاكمة ولاية أوريغون تينا كوتيك، التي اعتبرت أن قرار ترامب في نشر القوات «إساءة استخدام فادحة للسلطة» وأكّدت: أنّه «لا يوجد تهديد للأمن القومي في بورتلاند»، وفي سياقٍ متصل، اعتبر عمدة بورتلاند كيث ويلسون أن: «عدد القوات الضرورية هو صفر، في بورتلاند وفي أي مدينة أمريكية أخرى»، لتنضم هذه الأصوات إلى مواقف سابقة أعلنها مسؤولون أمريكيون مع كل قرار جديد بنشر القوات،
في حين يبدو المشهد حتى اللحظة كما لو أنّه محاولة لفرض نوع من السيطرة على المناطق التي يقودها الديموقراطيون، نظراً لكون قرارات نشر القوات شملت حتى الآن «مناطق للديمقراطيين» وساهمت ولايات يحكمها الجمهوريون بإرسال قوات من الحرس الوطني، إلا أن طبيعة هذه الخطوات تشير إلا أن مستوى القلق من شكل تطور الصراع الداخلي في الولايات المتحدة يرتفع بشكلٍ كبير، فالذرائع التي يقدمها ترامب لقراراته لا تدعمها الوقائع، ففي واشنطن العاصمة مثلاً كانت معدلات الجريمة المسجلة قد انخفضت عن سنوات سابقة، وليس العكس، ولا يبدو المشهد بالنسبة للمراقب الخارجي أنّه «خارج عن السيطرة» ولا يستوجب تدخلاً بهذا الحجم، لكن ما يفعله ترامب لا يأتي من الفراغ، بل يبدو استجابة باكرة لدرجة مرتفعة من الصدام المرتقب، فما نشهده الآن هو أن كل قرار تأخذه السلطة الفدرالية التي يمثلها ترامب، يقابل بعنادٍ شديدٍ في عدد من الولايات، ما يمكن أن يتحول سريعاً إلى حالة من العصيان! فالخلافات التي تظهر على السطح حول الهجرة، أو مكافحة الجريمة، أو غيرها... هي في الواقع نتائج لحالة الانقسام الشديدة التي يمكن أن تتحول إلى معيقٍ أساسي في أي قرارات قادمة يمكن أن تتخذ، فيما يخص البيت الداخلي الأمريكي.
أكبر استدعاء
لقادة الجيش في التاريخ الحديث!
أمر وزير الدفاع بيت هيغسيث بانعقاد اجتماع استثنائي لمئات من كبار الضباط العسكريين، وهو حدث وُصف بأنه نادر وغير مسبوق، من حيث الحجم والنطاق، وليس هناك إجراء مشابه في التاريخ الحديث للجيش الأمريكي، وهذا ما أكدته جريدة واشنطن بوست في واحدةٍ من مقالاتها، إذ ذكرت أن «لا أحد يتذكر قيام وزير دفاع سابق بأمر تجميع هذا الكم من الجنرالات والبحارة» ويبدو الإجراء غريباً بالفعل، وخصوصاً أن الحديث يعني جمع أكثر من 800 ضابط في مكان واحد، والأهم، أن هذا الاستدعاء يشمل فعلياً جنرالات وأدميرالات في الجيش الأمريكي جميعهم في مناصب قيادية لا إدارية، ويرافقهم كبار من مستشاريهم من ضباط الصف. ومن المقرر أن يجري هذا الاجتماع يوم الثلاثاء القادم 30 أيلول في قاعدة كوانتيكو لمشاة البحرية قرب واشنطن.
بالتأكيد، لن يتم الإعلان عن السبب الحقيقي لعقد لقاء يستوجب أن يغادر كل قادة الجيش الأمريكي من مناطق الصراع حول العالم المتواجدين فيها حالياً، ومع ذلك حاول البيت الأبيض التخفيف من القلق الذي تلا صدور القرار، واعتبر مسؤولون رفيعو المستوى أن الحدث «اعتيادي» ووصفه ترامب بأنّه: «أمر رائع أن يرغب الجنرالات وكبار المسؤولين في المجيء إلى الولايات المتحدة ليكونوا مع وزير حربنا الحالي» وهو ما يبدو قصة يمكن أن تحكى للأطفال في الحضانة، ولا يمكن تصديقها، وهو ما فتح باباً واسعاً للتأويلات.
فرضيات متداولة
الهدف بالنسبة لوزارة الدفاع يرتبط «برغبة هيغسيث بأن ينقل شخصياً رسالته حول استعادة الروح القتالية في الجيش الأمريكي» وسيقدم في الاجتماع «معايير جديدة بكيفية تحقيق هذه الروح القتالية» بينما وصف مسؤول كبير في إدارة ترامب الاجتماع بأنّه فرصة «لإثارة حماسة مقاتلينا بشأن الوضع الجديد للوزارة التي أعيدت تسميتها إلى وزارة الحرب»! ما يظهر أنّنا قد نشهد مهام جديدة كبيرة توكل إلى الجيش الأمريكي، وينبغي أن يُبلغ كبار الضباط بهذه القرارات بشكلٍ شخصي.
لكن إشارات مختلفة تظهر من أماكن متفرقة، تشير إلى أن اللقاء يمكن أن يرتبط بخطة هيغسيث لتقليص عدد ضباط الجيش، وإقالة 20% منهم، والتي يرى البعض أنّها محاولة «تطهير» واختيار عناصر موالية بشكلٍ مطلق لترامب، وهو ما بدأ وزير الدفاع بتنفيذه بالفعل، إذ أصدرت إدارة هيغسث قرارات بعزل أو إجبار كبار الضباط على الاستقالة دون أسباب رسمية، وبلغ عدد الإقالات حتى اللحظة 12 من كبار القادة، من بينهم رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال تشارلز براون، ورئيسة العمليات البحرية ليزا فرانشيتي، ونائب رئيس أركان القوات الجوية حيمس سلايف بالإضافة لمسؤولين آخرين، مثل: مدير وكالة الاستخبارات الدفاعية، ومسؤولو الاحتياط البحري وقادة المشاة البحرية. وهو ما كان السبب وراء الرسالة التي وقّع عليها وزراء سابقون استنكروا فيها الإقالات، معتبرين أنّه «لم تكن هناك مبررات حقيقية» ونبّهوا إلى أن العديد من الضباط المقالين «تم ترشيحهم من قبل ترامب لمناصب سابقة» وهم بحسب ما جاء في الرسالة «ضباط لديهم مسيرات مهنية مثالية، بما في ذلك الخبرات العملياتية والقتالية».
في هذه الأجواء المشحونة، خرج الجنرال المتقاعد بن هودجز القائد العام السابق للجيش الأمريكي في أوروبا، ليقارن بين الاجتماع المزمع عقده في قاعدة كوانتيكو، والاجتماع المفاجئ الذي عُقد في برلين عام 1935 والمعروف باسم «قَسم الولاء النازي العام» حين طُلب من الجنرالات الألمان أداء قسم الولاء الشخصي لهتلر، بدلاً من قسم الولاء للدستور. إن مقارنة هودجز التي سخر منها مسؤولون رسميون، واعتبروها «قصة رائعة» تكشف جزءاً مما يجري، فالصراع الداخلي الأمريكي يشتد، ويبدو أن الجيش سيكون أداة أساسية قريباً في هذه المعركة، وإن حصل هذا، ينبغي أن تكون بنية وتركيبة الجيش قادرة على أداء المهمة التي ستوكل إليه، ما يستوجب تسريحات واستبعاد لكل العناصر التي قد تعيق تنفيذ أوامر السلطة الفيدرالية، لكن وبعكس ما يحاول هودجز التلميح له، بأن الخطوة يمكن أن تكون بداية لإشعال معارك كبرى في العالم، يبدو أن هناك فرضية أخرى، وهي تلك المرتبطة بخطة وزير الدفاع لتغيير استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية، التي ينبغي أن تركز الآن لا على ساحات الصراع الخارجية، بل على «أمن الوطن ونصف الكرة الغربي» لكن، ومع ذلك تبقى كل الاحتمالات مفتوحة، لكن تسارع الأحداث لن يترك مجالاً للفرضيات التي سيحسمها الواقع سريعاً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1245