فرنسا تواجه اختباراً تاريخياً... ماذا بعد سقوط الحكومة؟!
في ظل الاضطرابات الاقتصادية والجيوسياسية التي يشهدها العالم، تعيش فرنسا لحظة مفصلية في تاريخها السياسي في خضم أزمة داخلية لم يعد من الممكن احتواؤها بالوسائل التقليدية. فبين تباطؤ اقتصادي حادٍّ، وتضخمٍ غير مسبوق في الدَّين العام، والانقسامات السياسية المتكررة. تواجه الحكومة اختبار شرعية عسير. خطة التقشف التي طرحتها حكومة بايرو لم تكن سوى شرارة جديدة في صراع طويل بين مؤسسات الحكم والمجتمع الفرنسي، الذي بات يشكك في قدرة النظام على الاستجابة لتحديات العصر.
يوم 8 أيلول 2025، وفي خطوة وُصفت بالمقامرة السياسية، طرح فرانسوا بايرو رئيس الوزراء الفرنسي خطته التقشفية للتصويت في الجمعية الوطنية. ونتج عن ذلك سقوط الحكومة، بعد أن صوّت 364 نائباً ضدها مقابل 194 مؤيداً، لتنتهي بذلك تجربة حكومية لم تتجاوز تسعة أشهر.
السياق الكامل
تواجه فرنسا أزمة مالية متفاقمة، إذ تحتل المرتبة الثالثة بين دول الاتحاد الأوروبي من حيث حجم الدين العام، الذي بلغ 115% من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما يعادل نحو 2.8 تريليون دولار سنوياً. ويستمر عجز الموازنة في الارتفاع، متجاوزاً 6%، في مخالفة واضحة للسقوف التي يحددها الاتحاد الأوروبي وهي 60% للدين العام و3% للعجز.
هذا التدهور المالي انعكس على التصنيف الائتماني للبلاد، ما يعكس تراجع ثقة الأسواق في قدرة الاقتصاد الفرنسي على التعافي. وتثير هذه المؤشرات مخاوف من تداعيات أوسع داخل الاتحاد الأوروبي، في حال استمرار التدهور دون إجراءات إصلاحية فعالة.
في تموز 2025، وفي هذا المشهد السوداوي أعلن رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا بايرو عن خطة تقشف تهدف إلى خفض العجز والدين العام، عبر تقليص الإنفاق بنحو 44 مليار يورو ضمن ميزانية عام 2026. وشملت الخطة إجراءات مثيرة للجدل، أبرزها: تخفيضات واسعة في الإنفاق العام، طالت قطاعات شريانية للمجتمع الفرنسي، كالتعليم والصحة والتقاعد والضمان الاجتماعي، إلى جانب إلغاء عطلتين رسميتين.
أثارت هذه الإجراءات موجة غضب شعبي، ورفضاً سياسياً واسعاً، فتصاعدت الاحتجاجات والدعوات للإضرابات. ليسجَّل يوم 10 أيلول الذي تلا الاستقالة مباشرةً بوصفه لحظة مفصلية في التاريخ الفرنسي، فلم يكن الحراك الشعبي، الذي اتخذ شعار «Bloquons tout» (لنُعطّل كل شيء) مجرد احتجاج عابر، بل تجسيداً لغضب اجتماعي عميق ضد السياسات النيوليبرالية والتقشفية التي طبعت عهد بايرو.
موجة احتجاجية جديدة
شهد 10 أيلول في فرنسا أكثر من 596 تجمعاً و253 عملية تعطيل بحسب وزارة الداخلية، بينما قدّرت نقابة CGT عدد المشاركين بـ 250,000. شملت التحركات إضرابات واسعة في قطاعات النقل والتعليم والصحة، إضافة إلى إغلاق طرق سريعة، وتعطيل محطات ومطارات، واحتلال رمزي لمقار حكومية، ووقفات احتجاجية أمام مقار حكومية.
ورغم أن المبادرة كانت شعبية الطابع، حيث انطلقت الدعوة إلى هذا الحراك من مجموعات شعبية مستقلة عبر منصات التواصل الاجتماعي، ونشطت شبكات شبابية ومواطنون مستقلون تحت مسمى «دعونا نكون ساخطين»، مستلهمين روح العصيان المدني من حراك «السترات الصفراء» الفرنسي و«ساخط» الإسباني. إلا أن أطرافاً سياسية بارزة انضمت إليها لاحقاً، من بينها حزب «التجمع الوطني» بقيادة مارين لوبان، والحزب الاشتراكي بقيادة أوليفيه فور، وحزب «فرنسا الأبية» اليساري بقيادة جان لوك ميلانشون، الذي وصف استقالة بايرو بأنها «انتصار شعبي ضد الأوليغارشية»، مؤكداً، أن «الشارع هو من يملك الشرعية الآن». في تصريح له قبل أيام من الحراك، قال: «ابتداءً من 10 أيلول، بدأ العد التنازلي» وأضاف على حسابه الشخصي: «سقط بايرو، والآن ماكرون في الصفوف الأمامية لمواجهة الشعب. يجب أن يرحل هو أيضاً». كما أعلنت النائبة اليسارية غابرييل كاتالا دعمها الكامل للإضرابات والاعتصامات، معتبرة أن: «الغضب الشعبي هو تعبير شرعي عن رفض السياسات الحالية».
عملياً، يبدو أن ماكرون يواجه اختباراً مصيرياً قد يعيد رسم خارطة السلطة في البلاد. إذ لا توجد أمامه بعد سقوط حكومة بايرو خيارات كثيرة، فإما اختيار رئيس وزراء جديد وحكومة من ذات التحالف القائم في مغامرة قد تنتهي بسقوط متكرر. أو تعيين رئيس وزراء جديد من خارج التحالف، أو إعلان حل الجمعية الوطنية والذهاب نحو انتخابات مبكرة. وفي كل السيناريوهات يتمثل الخطر الجدّي بالنسبة له في صعود خصومه السياسيين إلى المشهد بقوة.
بالمحصلة، لا يمكن قراءة المشهد السياسي الراهن في فرنسا بمعزل عن التراجع الأوسع الذي يطال النموذج الغربي برمّته. فمظاهرات 10 أيلول لم تكن حدثاً منعزلاً، بل تجلٍ محلي لانهيار عالمي متسارع في المنظومة الغربية، التي لطالما قدّمت نفسها كمرجعية سياسية واقتصادية. هذا التراجع، الذي يتجلى في تفكك الاتحاد الأوروبي المرتقب وتآكل الهيمنة الأمريكية، لا يزال يُواجَه بمحاولات يائسة من النخب الغربية لتثبيت منظومة آخذة في الانهيار، رغم تصاعد مؤشرات الانفصال بين السلطة والمجتمع، وتنامي الحراك الشعبي الذي خرج من هامش الحياة السياسية ليطالب بتمثيل حقيقي لمصالحه. في هذا السياق، تبدو خيارات السلطة، أي سلطة، عاجزة عن تحقيق اختراق فعلي، ما لم يتم توجيه البوصلة نحو حلول جذرية تعبّر عن مصالح الشعوب لا مصالح القوى الكبرى.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1243