في أوكرانيا … على الغرب أن يقبل الهزيمة!

في أوكرانيا … على الغرب أن يقبل الهزيمة!

ساد خلال الأيام الماضية حديث كثيف عن إمكانية الوصول إلى اتفاق سلام شامل ينهي الحرب الأوكرانية، وتحديداً بعد القمة التي جمعت الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأمريكي دونالد ترامب في ألاسكا 15 آب الجاري، واللقاء الذي تلاها بين ترامب والقادة الأوروبيون بحضور فولوديمير زيلينسكي، إلا أن التفاؤل بتوقيع الاتفاقية خفت وارتفعت حدة التصريحات مجدداً، ما أعاد طرح جملة من التساؤلات عن حقيقة ما جرى في ألاسكا وبعدها!

إن عقد قمّة رئاسية بين دول عظمى، مثل: روسيا والولايات المتحدة، كان دائماً مشروطاً بالوصول إلى تفاهمات ما، عبر الأقنية الدبلوماسية، وتكون القمة تتويجاً لما جرى التفاهم حوله، لكن الملف الأوكراني الذي شغل، على ما يبدو، الحيز الأكبر من القمة، هو ملف معقد، وهناك انقسام واضح حوله في أروقة صنع القرار الأمريكي، وهذا ما يدركه الطرف الروسي الذي اختبر مراراً مشاكل مشابهة مع واشنطن، كان أبرزها عقب المباحثات بين وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جون كيري ونظيره الروسي في 2016، فبعد أن وقّع كيري تفاهم ثنائي بين البلدين حول سورية واجه وزير الخارجية رفضاً داخل عدد من مراكز القرار الأمريكية، وتحديداً في البنتاغون، مما أدى إلى عدم التصديق الأمريكي على تفاهم كيري-لافروف، هذه الحادثة لم تكن الوحيدة، بل باتت سمة مرافقة للولايات المتحدة خلال السنوات الماضية، ففي اتفاقات مع طالبان في أفغانستان والاتفاق النووي الإيراني وغيرها من القضايا... برهنت الولايات المتحدة أنّها غير قادرة على السير في اتجاه محدد، نظراً لحجم الخلافات الاستراتيجية في البيت الداخلي الأمريكي، وهي مسألة لم يعد بالإمكان تجاهلها عند التفاوض مع واشنطن.

ما سبق يضع أمامنا أسئلة عن سبب انعقاد القمة في ألاسكا أصلاً، فإن كان الطرف الروسي يدرك أن التوجه المعلن للرئيس ترامب لإنهاء الحرب الأوكرانية قد يصطدم بعوائق داخل واشنطن تكفي للإعاقة بالحد الأدنى، أو قد تعكس الاتجاه نحو مزيدٍ من التصعيد، فما الغاية من القمة في حالة كهذه، وخصوصاً أنه لم يمض وقتٌ طويل حين انتقلت واشنطن من التفاوض مع إيران على البرنامج النووي إلى قصف المنشآت النووية الإيرانية بعملية مشتركة «إسرائيلية»-أمريكية.

لذلك يظهر أن روسيا ورغم إدراكها أن المسار لم يكن سهلاً كانت القمة بحد ذاتها مفيدة، وحققت ضغطاً إضافياً في الاتجاه المطلوب.

الحسابات الروسية

منذ بدأت الحرب الأوكرانية حرصت واشنطن على توسيع جبهاتها، فلم يكن الهجوم على روسيا محصوراً في المجال العسكري فحسب، بل شمل أيضاً حرباً اقتصادية حقيقية، اعتمدت الولايات المتحدة فيها على سلاح العقوبات، وحرصت على ضرب وتشويه العلاقات الاقتصادية الروسية-الأوروبية، إلى جانب التضييق على العلاقات الاقتصادية الروسية مع العالم كلّه، كما حرصت واشنطن على تعقيد نشاط الدبلوماسيين الروس، وكذلك خلقت المذكرة الصادرة بحق الرئيس الروسي من محكمة الجنايات الدولية عقبة أمام نشاطه على الساحة الدولية في كثير من المناسبات، ومن جانبٍ آخر حاولت واشنطن لَيَّ ذراع الواقع، عبر محاولات تقزيم الوزن الروسي والتعامل مع القوة العظمى كما لو أنّ روسيا دولة مارقة، متجاهلين أن الوزن الدولي لروسيا لم يكن يوماً قراراً أمريكياً، بل كان نتيجة موضوعية لعناصر اقتصادية وعسكرية وسياسية وتاريخية حصلت روسيا بموجبها على مقعد بين القوى العظمى في العالم.

بعد أن استمرت اللقاءات الأمريكية الروسية على مستوى الرؤساء على امتداد العشرين عاماً الماضية دون انقطاعات، توقفت في 2021 وظهر كما لو أن الولايات المتحدة تحاول تثبيت فكرة أنها قادرة على تجاهل روسيا وتهميشها، فكانت قمّة ألاسكا بمثابة تراجع أمريكي، وخصوصاً أنّ اللقاء جرى على أراضي الولايات المتحدة، واستقبل الرئيس الروسي بشكلٍ يليق برئيس دولة عظمى، وهذا وإن بدا مسألة عادية بنظر البعض ستكون لها ارتدادات لا في العلاقات الثنائية بين روسيا وأمريكا، فحسب بل على النطاق العالمي، وتثبيتاً لحقيقة أن الدور الروسي يظل أساسياً ولا يمكن تجاهله في رسم خطوط التوازنات العالمية.

عن أوكرانيا ونوايا ترامب الحقيقة

السؤال الثاني الذي لا يمكن تجاهله حول نيّة ترامب الحقيقية في الملف الأوكراني، وهل يريد فعلاً الوصول إلى اتفاق يُنهي الحرب؟ أم أن ما رأيناه لا يتعدى مناورة محسومة النتائج؟!

إذا ما راقبنا سلوك ترامب حول الملف الأوكراني، لكان واضحاً أنّه حرص على عدم الدخول في مواجهة مع روسيا، بل كان يعمل بشكلٍ مختلف تماماً من خلال محاولة تحييد روسيا وعدم الاشتباك معها، مع تركيز ضغطه على الصين، التي يرى فيها التهديد الأكبر للمكانة الأمريكية المتراجعة، لكن انفجار الأزمة الأوكرانية وبدء الحرب وضع الولايات المتحدة في موقع أضعف، فهي طرف أساسي في الصراع، وعلى هذا الأساس ستكون متأثرة بشكلٍ كبير بكيفية إنهاء هذه الحرب، فإن أي اتفاق سلام حقيقي لا يمكن أن ينجز إلا بموافقة روسيا التي تسيطر قواتها اليوم على 20% من أراضي أوكرانيا، وتواصل التقدم بشكلٍ يومي، وهذا إن حصل يعني هزيمة حقيقية للولايات المتحدة وكل القوى الغربية التي دعمت كييف في حربها، من هنا بات موقف ترامب مختلفاً عن موقفه قبل بدء الحرب، وحاول منذ وصوله إلى المكتب البيضاوي أن يخرج بلاده من هذا المأزق، عبر وسائل مختلفة، مع محاولة جدية لتجنيب الولايات المتحدة تداعيات هزيمة مزلزلة كهذه.

أن تخرج الولايات المتحدة دون أن تدفع ضريبة الهزيمة هو في الحقيقة مطلب مستحيل ولا يمكن إنجازه موضوعياً، وخصوصاً أن أي تأخير إضافي يعني خسارة أكبر، فالجيش الأوكراني لن يكون قادراً على عكس نتائج الصراع، بل إن ترامب نفسه قال: إنه «لا يمكن الفوز في مباراة باستخدام الدفاع فقط» والأكثر من ذلك أن هذا «الدفاع» لم يعد يستطيع الصمود طويلاً، ما يعني أن روسيا ستكون في موقع أفضل من موقعها اليوم، من هنا تبدو احتمالات تطور الملف الأوكراني محدودة، فإما أن ينهى الصراع اليوم بالشروط الروسية، ويتحمل الغرب مجتمعاً هذه الهزيمة، وإما أن تستمر الحرب أكثر دون أن تتغير النتيجة المحسومة، وخصوصاً أن الأدوات التي كانت من الممكن أن تؤثر على الموقف الروسي وتضعفه، مثل: العقوبات والحصار الاقتصادي، لم تعد قادرة على تحقيق أهدافها، بل كان الموقف الهندي الأخير دليلاً ملموساً على أنّ أدوات كهذه باتت منتهية الصلاحية، فالهند وعلى الرغم من التهديد الأمريكي بفرض رسوم جمركية وعقوبات عليها إذا استمرت بشراء النفط الروسي، لم تعر التهديدات الأمريكية أي اهتمام، بل وزادت من مشترياتها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1240