هل تبنى ترامب الطرح الروسي؟ أم أن المسألة لم تُحسم بعد؟

هل تبنى ترامب الطرح الروسي؟ أم أن المسألة لم تُحسم بعد؟

ثلاث ساعات قضاها فلاديمير بوتين بمباحثات مع نظيره الأمريكي دونالد ترامب في 15 آب الجاري في قاعدة جوية أمريكية في ألاسكا، اللقاء الذي جاء الإعلان عنه مفاجأة لم يكشف الكثير من خفاياه، ولم يكن بالإمكان تحديد إن كانت هناك نيّة أمريكية حقيقية في الوصول إلى اتفاق، أم أن ما جرى هو مناورة أمريكية جديدة.

حاولت بعض التقارير ومحللين سياسيين مرموقين الإحاطة بالإطار العام للقمة قبل الغوص في تفاصيلها، وكان مكان عقد القمة في قاعدة «إلمندورف ريتشاردسون» الجوية في ألاسكا حمل المؤشر الأول، وتحديداً كونها على الحدود بين البلدين، فبعد أن مثّلت كل من روسيا والولايات المتحدة أقطاباً متباعدة سياسياً وجغرافياً على المسرح العالمي، ظلّت ألاسكا نقطة وصل بينهما، وحمل اختيارها رمزية واضحة، وهو ما أشار له الرئيس الروسي في كلمته عقب انتهاء اللقاء، من جانبٍ آخر، لا يمكن إغفال كون أن القمة جرت على الأراضي الأمريكية كان كفيلاً بنسف فكرة «عزلة الرئيس الروسي» إذ كانت محكمة الجنائية الدولية أصدرت مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي على إثر قضية «الترحيل غير القانوني ونقل الأطفال من مناطق أوكرانية»، موسكو من جانبها ذكّرت أنّها ليست طرفاً في نظام روما الأساسي، ولا تعترف باختصاص المحكمة، ووصفت المذكرة بأنّها «باطلة ولاغية» ووضّحت مع ذلك أن نقل الأطفال لم يكن إلا محاولة لتجنيبهم تبعات الحرب، وإبعادهم عن القصف، وتأمين الرعاية الصحية والتعليم اللازم لهم. لكن ومع ذلك تحوّلت المذكرة إلى عائقٍ أمام حركة الرئيس إلى الخارج، قبل أن يستقبله ترامب على سجادة حمراء مع استعراض جوي باستخدام قاذفات B2.

لا اتفاق حتى الآن!

تثبّتت الأنظار على ألاسكا، فالمعروف أن القمة الرئاسية تأتي بمثابة تتويج لما جرى الاتفاق حوله في لقاءات سابقة، وتظل بعض التفاصيل المحدودة لنقاشها في اللقاء الرئاسي المباشر، لكن ما جرى هذه المرة بدا مختلفاً، فمن جهة يؤكد الجانبان الروسي والأمريكي على أهمّية اللقاء وجوانبه الإيجابية، لكن كلمات كهذه لم تكن كافية لإرضاء فضول المراقبين، وتحديداً بسبب كثافة العبارات الدبلوماسية الغامضة، ففي حين يقول ترامب مثلاً: إنهما اتفقا على كثير من النقاط، يُضيف بعدها إن «نقطاً كبيرة لم نتوصل لها بعد».

وفي هذا السياق، ونظراً لأن المؤتمر الثنائي لم يحمل أيّ إعلانٍ واضح المعالم ظهرت تساؤلات مفهومة، مثل: ما هو سبب اللقاء إن لم يكن هناك اتفاق لإعلانه؟! والجواب لن يكون متاحاً، ومع ذلك برزت بعض الآراء حول هذه المسألة.

ترامب وخلط الأوراق

كنا ناقشنا في مادة سابقة «قمّة ألاسكا المرتقبة… وتشكيل العالم الجديد» بعضاً من معاني وتبعات إنهاء الحرب في أوكرانيا وفقاً للشروط الروسية، فإعلان كهذا يعني هزيمة أمريكية مثبّتة ما سيكون له تداعيات واضحة على مجمل القضايا العالمية الأخرى، وبشكلٍ سريع. من هذه النقطة بالتحديد، يرى تيار من المحللين أن الرئيس الأمريكي وإن كان يرغب فعلاً بوضع حدٍ لهذه الحرب يظل واقعاً تحت ضغوط التوازنات السياسية في الداخل الأمريكي، وليس غائباً أن تياراً عريضاً داخل الولايات المتحدة يعارض وبشدة وقف الحرب، ويحاول ممثلو هؤلاء إعاقة أي توجّه من هذا النمط.

في مقابل ذلك، يرى تيار آخر من المحللين، أن خطوة الرئيس الأمريكي مراوغة جديدة، فهو يظهر نوايا لإنهاء الصراع، لكنه غير قادر، أو لا يريد قبول الشروط الروسية، وليس بإمكانه فرض شروطه على موسكو التي تحقق إنجازات عسكرية يومية، كان آخرها خرق خطوط الدفاع للجيش الأوكراني. وقد جرت ترجمة هذا الاستعصاء سابقاً على شكل مشروعين متناقضين، الأول: روسي يقول بضرورة عقد صفقة سلام كاملة تنهي القضية بشكل مستدام، في مقابل طرح أوروبي-أوكراني وأمريكي في بعض الأحيان، يقول بضرورة وقف مؤقت لإطلاق النار ما يمكن أن يتحول بنظر روسيا إلى فرصة لترميم الجيش الأوكراني.

في الحقيقة، وإن كانت قمة ألاسكا لم تحسم هذه المسألة، إلى أن تصريحات الرئيس الأمريكي حملت بعض المؤشرات عن إمكانية اعتماد جوهر الطرح الروسي حين قال: «أفضل طريقة لإنهاء الحرب هي الانتقال مباشرة إلى اتفاق سلام، وليس مجرد وقف إطلاق نار».

احتمالات قائمة!

منذ وصول ترامب إلى السلطة في ولايته الثانية، ظهرت نزعة واضحة للابتعاد عن المستنقع الأوكراني، لكن هذا الابتعاد قد لا يعني إطلاقاً تجفيف المستنقع، بل ربما الحفاظ عليه وتوسيعه أكثر، لكن دون أن تغوص الأقدام الأمريكية فيه، فإذا ما راقبنا سلوك الإدارة الأمريكية لرأينا أنّها تحاول تطوير الاشتباك، لكن على أن يكون على نفقة الأوروبيين الذين باتوا مجبرين في الآونة الأخيرة على شراء كميات كبيرة من السلاح الأمريكي وتقديمه للأوكرانيين، وهو ما يضمن لواشنطن الابتعاد عن دائرة الضوء، فالهزيمة الأوكرانية المرتقبة ستكون هزيمة لأوروبا، والتصعيد هو خطيئة أوروبا أيضاً، وهنا تؤدي الولايات المتحدة في حالة كهذه دور «وسيط السلام». وقد ظهرت في القمة مؤشرات على ذلك، فبدلاً من أن يُعلن ترامب الاتفاق، أعلن أنّه سيجري مباحثات مع أوكرانيا ودول أوروبية لـ «ينقل لهم الشروط الروسية» وإما أن يقبلوا أو يرفضوا، كما لو أن أطرافاً كهذه كانت حقاً ذات موقف مستقل! فالولايات المتحدة كانت منذ البداية العقل المدبر لكل ما جرى، وهي المسؤولة الأولى والأخيرة عن جر جميع الأطراف إلى هذا الصراع.

في الميدان أو على طاولة المفاوضات؟!

إن مصير الحرب في أوكرانيا لم يعد موضع جدل بالنسبة للمحللين الجديين، فالحرب حسمت لصالح روسيا، ولن يكون من الممكن إقناع موسكو بعد أن أحرزت هذا التقدم أن تتراجع دون تحقيق أهدافها، لكن التعنت والانقسام الأمريكي قد يؤدي في نهاية المطاف إلى انتظار المدافع حتى تنهي المسألة، بدلاً من أن يتم إنهاؤها على طاولة المفاوضات.

الاحتمالات متعددة، ولا يمكن حسمها قبل أن تصل اللقاءات الأوروبية الأمريكية إلى نتيجة واضحة، لكن وبعد القمة، أجرى الرئيس الأمريكي اتصالاً جماعياً موسّعاً مع قادة أوروبيين بحضور الرئيس الأوكراني، ورغم بعض التخوفات إلا أن الأوروبيين أشاروا إلى أن مصير الأراضي الأوكرانية يعود إلى السلطة في كييف، في إشارة إضافية للتنصل من الشروط التي كانوا قد وضعوها سابقاً، مع وجود تقارير تقول: إن الولايات المتحدة بحثت عن شكل ملائم لإنهاء الصراع دون أن تظهر بموقع المهزوم، تحدّثت بعضها عن وجود نيّة لتعهد أمريكي بالدفاع عن أوكرانيا بعد التوقيع على الاتفاق، لكن دون أن يكون هذا الدفاع مرهوناً بالانضمام إلى الناتو.

ترى مجموعة من الصحف الأمريكية الأساسية، أن الرئيس ترامب قدّم تنازلات كثيرة للرئيس بوتين بدأت من الاستقبال الباذخ والاستعراضي، ما بدا بنظرهم خدمة مجانية للرئيس الروسي الذي لم يكن مضطّراً أصلاً للإجابة عن أسئلة الصحافة، كون المؤتمر انتهى دون فتح المجال لتوجيه الأسئلة، لكن إعلان الرئيس الأمريكي عن تبنيه وجهة النظر الروسية في شكل إنهاء الصراع مثّل بحدّ ذاته صدمة كبيرة، ما يمكن أن يشير إلى أن التراجع الأمريكي إن حصل فعلاً ستكون ارتداداته الأكبر في الداخل الأمريكي.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1239