العدوان الصهيوني على إيران … مقاربة أولية
اندلعت فجر يوم الجمعة 13 حزيران الجاري مواجهات خطيرة في الشرق الأوسط بعد عدوانٍ صهيونيٍ على إيران، تلاه جولات متبادلة من القصف، وهو ما أدخل المنطقة في حالة من عدم الاستقرار غير المسبوقة، ومن المتوقع أن تستمر الضربات خلال الأيام وربما الأسابيع القادمة ما يفرض علينا إعادة تقييم المشهد العام، وتحديداً الهدف العميق من هذا العدوان وتأثيراته المحتملة.
الضربة «الإسرائيلية» الأولى كانت شاملة وموجعة بلا شك، أدّت إلى إلحاقِ أضرارٍ بمنشآتٍ حساسةٍ، منها تلك المرتبطة بالملف النووي الإيراني، كما اعتمد جيش الاحتلال تكتيكاً مشابهاً لذلك الذي جرى تنفيذه في لبنان عبر استهداف قياديين بارزين في إيران، كان أبرزهم اللواء محمد باقري رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية، واللواء حسين سلامي القائد العام للحرس الثوري الإيراني، واللواء أمير علي حاجي زاده قائد القوة الجوفضائية في الحرس الثوري الإيراني، وغيرهم من العسكريين والعلماء في مجال الطاقة النووية، في المقابل بدأت إيران من مساء اليوم ذاته بشن هجوم مضاد على «إسرائيل» برهنت فيه أن الضربات الصهيونية لم تكن كافية لشل قدرتها على الرد، بل على العكس تماماً، جاء الهجوم الإيراني المضاد عنيفاً على شكل موجات متلاحقة من مئات الصواريخ لم تتوقف حتى الآن، ووصل عددٌ كبيرٌ منها إلى أهدافه مخترقاً الطبقات المتعددة للدفاع الجوي «الإسرائيلي» وفرضت مشهداً غير مسبوق في المدن «الإسرائيلية» وحالات هلع دفعت عدّة ملايين من المستوطنين لدخول الملاجئ، وفي بعض الحالات تكرر هذا المشهد عدّة مرات في الليلة الواحدة، هذا فضلاً عن توثيق إصابات مباشرة في مبنى وزارة الدفاع والاقتصاد ومركز تل أبيب المالي، إلى جانب استهدافات مباشرة لقواعد عسكرية ومنصة غاز بالقرب من غزّة، وعدداً آخر من الأبنية، مما أدى إلى انهيارها، ونقلت وسائل الإعلام مشاهد غير مسبوقة لدمار في مدن «إسرائيلية» بدت «منيعةً» قبل إضرامها بالنيران.
كيف وصلنا إلى هنا؟
يبرز بوضوح اتجاهان في التحليلات، الأول: يؤكد أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب استخدم المفاوضات مع إيران كغطاء وتمويه للعملية «الإسرائيلية» وأن الإدارة الأمريكية والكيان الصهيوني خططوا بشكل مشترك لتوجيه هذه الضربة من مدّة طويلة، وأنه لم تكن هناك نيّة من الأساس للوصول إلى أي اتفاق من المفاوضات التي عقدت جولاتها الخمسة، وكان مقرراً أن تعقد الجولة السادسة منها يوم الأحد 15 حزيران قبل أن تعلن إيران عدم مشاركتها كرد على الضربات.
يرى أصحاب هذا التحليل في تصريحات الرئيس ترامب دليلاً دامغاً حين أكّد معرفته المسبقة بالضربات، وحين قال: إن «الولايات المتحدة أمهلت إيران 60 يوماً للوصول لاتفاق وأن الضربات بدأت في اليوم 61»!
في مقاربة أخرى، يبدو تفسير ما يجري أكثر تعقيداً، فهناك مؤشرات متواصلة عن وجود انقسام داخل الولايات المتحدة، وترامب في نهاية المطاف لن يكون إلا مُعبّراً عن توازن قوى محدد بغض النظر عن رؤية التيار الذي يُعبّر عنه، وكنا في قاسيون قد أشرنا في مقال سابق بتاريخ 10 حزيران إلى تصاعد المعركة داخل أروقة الحكم في واشنطن، وقلنا: «مع كل خطوة يتخذها ترامب في فرض أجندته سيلاقي ممانعة أكبر في الداخل، فحجم التحول المطلوب كبير ولن يمر بسلاسة، فبعد أن أظهر ترامب قدرته على أن يخطو خطوات في الشرق الأوسط، وفي الملف الأوكراني، بالاتجاه الذي يريده رأينا انتكاسات في هذه الملفات، ما يفسر إلى حد ما سلسلة الإقالات الجديدة، وهو ما يعني أننا سنشهد في الأيام القليلة القادمة رداً من تيار «الصقور في واشنطن» سيحاولون من خلاله منع ترامب من المضي قدماً في أجندته.
يميل عددٌ من المحللين إلى تصوير ما يجري بوصفه خضوعاً أمريكياً لما تريده «إسرائيل» ويرى هؤلاء أن ترامب دمية بيدها، وهو لذلك تورّط بهذا الحرب، لكن استنتاجات من هذا النوع تحتاج بعضاً من التدقيق، وهو تحديداً أن من يحدد هذا التوجه بالتحديد ليس «إسرائيل» بمعناها الضيق بل الحركة الصهيونية، ورأس المال الإجرامي داخل الولايات المتحدة، والذين يمثلون تياراً سياسياً واقتصادياً وازناً داخل الولايات المتحدة، ويعبرون بالضرورة عن مصالح طبقية محددة، وهم التجسيد للتيار الفاشي الرجعي على المستوى العالمي، هذا التيار بالتحديد يعمل بالضد من التوجهات المعلنة للتيار الانكفائي في واشنطن، فمسعى ترامب لعقد اتفاق جديد مع طهران كان مهمة شاقة، من جهة سعى ترامب لإنجاز المهمة، لكنّه وتحت تأثير الضغوط الداخلية لم يستطع تقديم التنازلات الضرورية، وكان ما أشار له مسؤولون إيرانيون عن أن ما يقال على طاولة المفاوضات مختلف عمّا يقال أمام الإعلام، وهو مؤشر على مستوى ضغوط كبيرة لا على الإيرانيين فحسب، بل أيضاً على الطرف المفاوض في المقابل.
ما بين الأهداف المعلنة والحقيقية
يسود مزاج في التصريحات «الإسرائيلية» والأمريكية مفاده: أن الهدف هو إنهاء البرنامج النووي الإيراني وقدرات إيران الصاروخية، ويبرز في التصريحات الأمريكية توجّه يتحدث حتى اللحظة عن ضرورة فرض قبول العرض الأمريكي، عبر دفع إيران للعودة إلى طاولة المفاوضات، كما لو أن النشاط الدبلوماسي الذي كان يهدف لاحتواء الأزمة بالطرق السلمية تحوّل بين ليلة وضحاها إلى مفاوضات تحت النار! يكون الإيرانيون مجبرين من زاوية نظر المعتدين على القبول بأي شروط تفرض عليهم أو يواجهون مصيراً أسوداً!
لكن إذا ما تأملنا المشهد بتمعن أكبر، لصرنا على يقين من أن أهدافاً من هذا النمط لن تكون قابلة للتطبيق، فالبرنامج النووي الإيراني ليس منشأة صغيرة يمكن تدميرها ببساطة، بل هو فعلياً شبكة معقدة محصنة بشدة، وتتألف من مراكز أبحاث موزّعة، ومنشآت لصناعة أجهزة الطرد المركزي، التي يفوق عددها 18 ألف جهاز بكثير، وهي أجهزة صغيرة الحجم نسبياً، ويمكن إخفاؤها بمئات المواقع، وتحديداً إخفاء الجيل السادس منها الأكثر تطوراً، والتي بلغ عددها 500 جهاز في 2022، هذا فضلاً عن امتلاك إيران أكثر من 9200 كغ من اليورانيوم المخصب بنسب مختلفة، منها أكثر من 400 كيلو مخصبة بنسبة 60% وهو ما يمكن تطويره خلال فترات زمنية قصيرة إلى 90% وهي النسبة الكافية لصناعة 10 قنابل نووية. كذلك الأمر بالنسبة للقدرات الصاروخية الإيرانية، فهي بكل تأكيد ليست هدفاً سهلاً قابلاً للتطبيق، ما يطرح سؤالاً مشروعاً حول الهدف الحقيقي من هذا الضربات؟
جذر المسألة
النقطة الأساسية المفصلية في التفسير، هي أن الأزمات في الرأسمالية تشتد وتتعمق، ولطالما كانت الحروب مخرجاً مؤقتاً منها، ولذلك يظّل إشعالها مطلوباً، وتحديداً تلك ذات التأثيرات الكبيرة، فالحرب على إيران تستهدف بكل تأكيد النظام الإيراني لا لاستبداله بنظامٍ آخرٍ فحسب، بل كأداة لتفجير وحدة إيران الجغرافية والسياسية، ولكن هذا الهدف ورغم آثاره الكبيرة هو واحد من أهداف أخرى متعددة، فيبدو وضوحاً أن «إسرائيل» لن تكون قادرة على تحمّل ضربات من هذا النوع لفترات طويلة، وهو ما يشكل مبرراً لانخراط غربي أكبر بدأنا نشهد ملامحه الأولى، ويكون انخراط الولايات المتحدة تحديداً هو الهدف الأكبر، فذلك يعني شل قدرة التيار الانكفائي وغرز أقدامه في وحل الحرب بالشرق الأوسط، ويمكن أن يتحول صراع في منطقة حساسة مثل إيران إلى عامل ضغط على العالم كلّه، وتحديداً على روسيا والصين، فبالنسبة لهذه الأخيرة يمثّل كل تهديد في منطقة الخليج تهديداً استراتيجياً لمصالحها، أما بالنسبة لروسيا فمعركة كبيرة كهذه تجري بالقرب من حدودها وتستهدف حليفاً استراتيجياً لها. كما من شأن هذا التوتر أن يتحوّل إلى ضغط شديد على العلاقات العربية-الإيرانية، وتحديداً إذا ما بدأت إيران تستهدف المصالح الأمريكية في المنطقة.
نحن الآن أمام اختبارٍ حاسمٍ، المعركة الحالية ليست معركةً عابرة، بل هي محاولة لقلب المنطقة وإعادة رسمها وفقاً لمصالح الفئات الأكثر رجعية في العالم، وهي لذلك مسألة لا يمكن تجاهلها، الأيام القليلة القادمة ستكشف كيف يمكن أن تتطور الأحداث، وخصوصاً أننا أمام سيناريوهات مفتوحة، نظراً لكون ما يجري يمثّل تهديداً إقليمياً ودولياً شاملاً، لن تكون إيران وحدها المعنية بالتصدي لهذه المغامرة الشريرة، بل سنشهد تطوراً نوعياً للتيار الكبير الذي سيعمل بالضد من هذه المحاولة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1230