من نهب الآخر؟ الولايات المتحدة أمْ العالم؟!

من نهب الآخر؟ الولايات المتحدة أمْ العالم؟!

ما أن أعلن الرئيس الأمريكي عن تفاصيل خطته لفرض رسوم جمركية على دول العالم حتى بدأت التحليلات والتنبؤات، فالخطوة ستكون لها آثار كبيرة، وستصيب التجارة العالمية بصدمة حقيقية قد لا تستطيع التأقلم معها سريعاً، وفي حين تبدو قررات ترامب كما لو أنّها خطوة انتحارية، يرى فيها البعض جزءاً من استراتيجية شاملة، تبدأها الولايات المتحدة الأمريكية، وبالرغم من أن الغموض يكتنف الكثير من تفاصيل هذه الاستراتيجية، لكن يمكننا أن نضع بعضاً من المداخل الضرورية لفهم ما يجري، ونراقب في الأيام القليلة الماضية بدء التداعيات.

برر الرئيس الأمريكي قراراته بضرورة «المعاملة بالمثل» وكرر عبارات مثل: «العين بالعين» وقال يوم أعلن عن نسب الرسوم التي سيفرضها: إن «الولايات المتحدة تعرّضت للنهب والسلب من قبل دول قريبة وبعيدة، صديقة كانت أم عدوة» وأضاف: إن عمال بلاده «عانوا معاناة شديدة وهم يراقبون قادة أجانب يسرقون الوظائف الأمريكية» بحسب تعبيره، وركّز في حديثه كيف جرى «تحطيم الحلم الأمريكي الجميل»!

كيف وصلنا إلى هنا؟

تأثر الكثير من الأمريكيين بكلمات الرئيس الأمريكي دون شك، لكن الرئيس لم يكشف بصدق الأسباب الحقيقية لهذا، فالنظام الرأسمالي الذي ازدهر في الولايات المتحدة كان محكوماً بقوانينه الداخلية، فهجرة رؤوس الأموال بحثاً عن معدلات ربحٍ أعلى هي نزعة موضوعية في الاقتصاد الرأسمالي، ولذلك كان إغلاق 90 ألف معمل أمريكي خلال العقدين الماضيين نتيجة طبيعية لم تنتج من «قرارات خاطئة» بل نتيجة حتمية لنظام اقتصادي واجتماعي محدد، وما يقوله ترامب اليوم أمام عشرات الملايين من الناس يبدو محاولة لعكس عقارب الساعة، فما الذي يمكن أن يُعيد الصناعة إلى الولايات المتحدة؟ وما هي الشروط التي تحتاجها رؤوس الأموال الصناعية للاستثمار مجدداً داخل أمريكا؟ وما هي خطة التمويل للاستثمارات بهذا الحجم؟ هي بعضٌ من أسئلةٍ كثيرة تحتاج إلى إجابات. لكن ما يهمنا هنا هو الإشارة إلى قاعدة التفكير الضرورية.

وربما تكون المسألة الأهم في هذا السياق، أن ننطلق من أننا أمام إجراءات استثنائية لم يحدث مثيل لها من 100 عام، وهو ما يؤكد حجم وطبيعة الأزمة التي تواجهها الولايات المتحدة، فاتخاذ قرارات بهذا الحجم ستكون له آثار هائلة على التجارة والأسواق الدولية وسلاسل التوريد، فضلاً عن تداعيات اقتصادية واجتماعية كبيرة داخل الولايات المتحدة وخارجها، وهو ما يشير إلى أن أصحاب القرار في واشنطن يدركون أنّهم اليوم أمام تحدٍ وجودي، وأن الآجال الزمنية المتاحة محدودة، ولا يجوز تأخيرها أكثر مما تأخرت، حتى أن ربط اتخاذ هذه الإجراءات بضرورات الأمن القومي يعني بكل تأكيد استعداداً لمواجهات أعنف في المستقبل، وقناعة راسخة أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة ضمن الظروف الحالية على تأمين احتياجات بقائها.

انتقادات داخلية

الإجراءات بدت خطوة غير مدروسة، فخرجت بعض الأصوات من داخل الولايات المتحدة لتناقش ما جرى، وتوجّهت بعض الانتقادات إلى كيفية تحديد هذه الرسوم، ولماذا جرى استثناء قطاع الخدمات من الحساب، وذلك بالرغم من كونه رافداً مهماً للاقتصاد الأمريكي، وجزءاً أساسياً من العلاقات الاقتصادية مع الدول الأخرى، هذا فضلاً عن أن حساب التعرفة أخذ أرقام عام 2024 ولم يأخذ بعين الاعتبار أن هذه الأرقام تختلف من عام إلى آخر، وأن الميزان التجاري الأمريكي مع بلد ما قد يكون خاسراً في عام، ورابحاً في عامٍ آخر، لكن المشكلة الأكبر تبدو في مدى إمكانية تنشيط الصناعة الأمريكية فعلاً، فبالبداية وإذا ما أرادت المنشآت الصناعية أن تُعيد فتح أبوابها في الداخل الأمريكي، ستجد نفسها مضطرة للعمل ضمن ظروف قاسية، فمن جهة سيكون بناء هذه المنشآت مكلفاً للغاية، نظراً إلى الرسوم الجمركية على مواد البناء وسيكون تأمين المواد الخام ومستلزمات أي من هذه الصناعات مسألة صعبة، ستؤدي حتماً، إن تم إعادة توطينها، إلى زيادة كبيرة في أسعارها، بالمقارنة مع نظائرها المصنّعة في الخارج، هذا فضلاً عن أن المنتجات الأمريكية ستواجه انخفاضاً داخلياً في الطلب بسبب ارتفاعات الأسعار، وانخفاض الاستهلاك، بالإضافة إلى رسوم جمركية من قبل دول العالم، تُضعف إلى حد كبير قدرتها على المنافسة في الخارج، ويجب أن نأخذ أيضاً بعين الاعتبار، أن إعادة توطين الصناعة لا يمكن أن يتم بسرعة، وسيحتاج إلى سنوات واستثمارات ضخمة، أي أن المستهلك الأمريكي وأصحاب الدخل المحدود سيعانون من انخفاض قدرتهم الشرائية، التي قد تصل إلى حد تأمين احتياجاتهم الضرورية من الغذاء.

الابتزاز مسألة أساسية!

لا يغيب عنا أيضاً، أن السوق الأمريكي كانت وجهة كمية هائلة من البضائع المنتجة في العالم، وستفرض هذه الإجراءات صعوبات أمام إيجاد أسواق بديلة، وستواجه الدول المصنّعة صدمة حقيقية في تصريف إنتاجها، وهو ما ترى فيه الولايات المتحدة باباً مناسباً للتفاوض والابتزاز، فترامب قال: إنّه مستعد «لعقد صفقات مع دول أخرى إذا حصلت الولايات المتحدة على شيء استثنائي» أي أنه يفتح الباب أمام التفاوض بشكل متوازٍ، ويرى أنّه سيكون في موقع تفاوضي مميز، وليس من الصعب أن نعرف أن الملفات التي سيجري التفاوض حولها لا تنحصر في التجارة، بل ستتضمن حتماً ملفات سياسية كبرى، ولن يطول الانتظار حتى نسمع عن صفقات لهذا الغرض، فالهند مثلاً: بدأت ببحث خفض التعرفة على البضائع الأمريكية، بينما بدأ الاتحاد الأوروبي التفكير بإجراءات مشابهة، بالإضافة للتفكير بشراء كميات أكبر من الغاز المسال الأمريكي والمعدات العسكرية! لكن ذلك ليس إلا مرحلة أولى قد تصل إلى تنازلات سياسية تقوم بها بعض الدول لحماية نفسها وصناعتها.

التحدي الأكبر

إن الخلل في الميزان التجاري الأمريكي كان في الواقع مفيداً للولايات المتحدة، فعلى أساس هذا الخلل كانت الأخيرة قادرة على نقل جزء كبير من الكتلة النقدية الدولارية إلى الخارج، لتحصل في مقابلها على سلع مما يخفض من التضخم، وإذا ما أخذنا الطلب الكبير على الدولار في المعاملات التجارية الدولية، يمكننا أن نستنتج أن سياسة من هذا النمط فرضت على «الخارج» أن يتعامل مع هذا الفائض الدولاري الضخم، ووجدت الكثير من الدول الاستثمار في سندات الخزينة حلّاً له، ما يعني أن الهزات التي قد تضرب الدولار ستؤثر على الاقتصاد العالمي كلّه، وعلى حملة هذه السندات، وتضعهم أمام خيارات صعبة تحتاج لحسابات دقيقة جداً، كي لا يتحملون الآثار الاقتصادية الأكبر، وإن كان من البديهي القول: إن الدول ستفرض إجراءات جوابية فوراً، إلا أنّها ستكون محكومة بمدى ارتباط اقتصادها بالاقتصاد الأمريكي، وستبحث عن مخارج كي لا تتحمل شعوبها تكلفة ما جرى، ففي الواقع كانت الولايات المتحدة الناهب الأكبر عبر فرض الدولار كعملة أساسية في التبادل والاحتياطات، ولم تكن العلاقة كما يصوّرها ترامب، الذي يستشعر أن الموقع الأمريكي المميز يهتز، ولن يطول الوقت قبل أن تتغير قواعد اللعبة، لذلك يحاول أن يفرض لحظة الحرب على الجميع، وسيكون مدى استعداد العالم لهذه اللحظة العامل الحاسم في شكل سير الأمور.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1221