فضيحة بروج: فساد في معقل النخبة الأوروبية يهز صورة القارة العجوز

فضيحة بروج: فساد في معقل النخبة الأوروبية يهز صورة القارة العجوز

في ظلال الأبراج القديمة لمدينة بروج البلجيكية، حيث تتلقى النخبة الأوروبية الصاعدة تدريبها في كلية أوروبا العريقة، انفجرت قنبلة فساد هزت أروقة الاتحاد الأوروبي من أساسها. لم يكن الأمر مجرد شبهات عابرة، بل توقيف واستجواب واستقالات طالت شخصيات كبرى، على رأسها فيديريكا موغيريني، المسؤولة السابقة عن السياسة الخارجية للاتحاد والتي كانت يوماً ما الوجه الدبلوماسي للقارة، وتشغل حالياً منصب عميدة الكلية ذاتها.

تتعلق التهم الموجهة لها ولسواها من المسؤولين الرفيعين بـ الاحتيال في المناقصات العامة والفساد وتضارب المصادر وانتهاك السرية المهنية، وذلك في إطار تحقيق يتعلق بمنح الكلية عقداً من الاتحاد الأوروبي بقيمة تقارب مليون يورو لتدريب دبلوماسيين مستقبليين. فكيف تحولت المؤسسة التي يفترض أن تكون حصناً للقيم والمبادئ إلى بؤرة شبهات، وكيف ترتبط هذه الحلقة بسلسلة أزمات النزاهة الطويلة التي يعاني منها البناء الأوروبي؟

 

 من قمة الدبلوماسية إلى قفص الاستجواب: مسار موغيريني المثير

كانت موغيريني، البالغة من العمر 52 عاماً، تجسد صورة الوجه الأوروبي الحديث؛ وزيرة خارجية إيطالية شابة ثم الممثلة العليا للشؤون الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي بين عامي 2014 و2019، حيث قادت ملفات بالغة الحساسية كالمفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني. بعد ذلك، انتقلت بسلاسة إلى العالم الأكاديمي النخبوي، لترأس منذ عام 2020 كلية أوروبا في بروج، التي تخرج أجيالاً من موظفي الخدمة المدنية والدبلوماسيين الأوروبيين، كما ترأس الأكاديمية الدبلوماسية للاتحاد الأوروبي منذ آب 2022، وهو البرنامج الذي أصبح اليوم محور التحقيق.

وصلت الأزمة إلى ذروتها مع إعلان مكتب النائب العام الأوروبي (EPPO) عن توجيه التهم للثلاثة المشتبه بهم، بعد عمليات تفتيش شملت مقر الخدمة الخارجية للاتحاد في بروكسل، ومبانٍ تابعة لكلية أوروبا، وحتى منزل موغيريني نفسها. وعلى الرغم من إطلاق سراحها بعد استجواب دام عشر ساعات، لأن القاضي لم يرَ "وجود خطر هروب"، إلا أن الضرر السياسي والأخلاقي كان قد وقع. وتبع ذلك استقالة موغيريني من منصبها كرئيسة للكلية، "التزاماً بالدقة والنزاهة" كما قالت في بيانها، في خطوة رأى فيها المراقبون محاولة لاحتواء التداعيات أكثر منها اعترافاً بالذنب.

 

 دائرة الاتهام تتسع: شبكة من العلاقات والصلات المشبوهة

لم تكن موغيريني الوحيدة في دائرة الضوء. فقد شملت القضية شخصيتين أخريين بارزتين، مما يكشف عن شبكة من العلاقات داخل دوائر صنع القرار الأوروبي. الأول هو ستيفانو سانينو، المسؤول الرفيع في المفوضية الأوروبية الذي شغل سابقاً منصب الأمين العام للخدمة الخارجية الأوروبية بين 2021 و2024، ويشغل حالياً منصب المدير العام لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ودول الخليج. وقد قدم استقالته المبكرة من منصبه على خلفية التحقيق، في خطوة أخرى تهز هيكل المفوضية.

أما الشخص الثالث فهو سيزار زيغريتي، نائب مدير كلية أوروبا المسؤول عن التدريب والمشاريع. جوهر التحقيق يدور حول شبهة محاباة ومنافسة غير نزيهة، حيث يبحث المحققون عما إذا كانت الكلية أو ممثلوها قد أُبلغوا مسبقاً بمعايير الاختيار السرية أثناء عملية استدراج العروض التي أطلقتها الخدمة الدبلوماسية الأوروبية لمنح عقد البرنامج التدريبي. بمعنى آخر، اتهامات بـ تسريب معلومات داخلية لتسهيل حصول مؤسسة معينة على عقد عام، وهي ممارسة إذا ثبتت تنسف مبدأ المنافسة العادلة وتضع علامات استفهام كبرى حول نزاهة تخصيص المال العام الأوروبي.

 

 صورة متصدعة: أزمة شرعية مزمنة للاتحاد الأوروبي

فضيحة بروج ليست حادثة معزولة، بل هي حلقة جديدة في سلسلة طويلة تعكس أزمة شرعية عميقة يعاني منها المشروع الأوروبي. لطالما قدم الاتحاد نفسه للعالم على أنه حصن الديمقراطية والقانون والنزاهة، نموذج يُحتذى به في الشفافية والحوكمة الرشيدة. ولكن الواقع، كما تكشف الوقائع المتتالية، غالباً ما يكون مختلفاً.

فالفساد في دوائر الاتحاد الأوروبي ليس ظاهرة جديدة. فقد حذرت منظمة الشفافية الدولية قبل سنوات من أن العلاقات الوثيقة بين الشركات والحكومات الأوروبية تشجع الفساد، وأن الأحزاب السياسية والمؤسسات العامة هي الأقل أداءً في مكافحته. كما أن أزمات مثل بريكست كشفت عن سخط شعبي من بيروقراطية بروكسل التي يراها الكثيرون بعيدة ومنفصلة عن هموم المواطن العادي.

وتكمن المفارقة المرة في أن هذه الفضيحة انفجرت عبر جهاز كان من المفترض أن يكون جزءاً من الحل، وهو مكتب النائب العام الأوروبي (EPPO). هذه الهيئة المستقلة التي أنشئت عام 2021 خصيصاً لمكافحة الاحتيال بأموال الاتحاد، تجاوزت في تحقيقاتها الحدود الوطنية لتمسك بخيوط قضية تورط فيها كبار المسؤولين. وجود مثل هذه الهيئة القوية يشير من جهة إلى إدراج المؤسسات الأوروبية لخطورة المشكلة، ولكن من جهة أخرى، فإن ضخامة القضية التي تكشف عنها تثير تساؤلات عن حجم ما لا يزال خافياً.

 

 تداعيات على الثقة والمصداقية

تداعيات فضيحة بهذا الحجم لا تقتصر على المصائر الفردية للمتهمين. فهي تضرب أحد الرموز التعليمية للنخبة الأوروبية، مما يضع علامة استفهام على نزاهة النظام الذي ينتج القادة والديبلوماسيين المستقبليين للقارة. كما أنها تقدم ذخيرة دسمة للقوى السياسية الناقدة للاتحاد الأوروبي، التي طالما صورت بروكسل على أنها برج عاجي فاسد.

الأكثر خطورة هو الضربة التي تتلقاها المصداقية الأخلاقية للاتحاد الأوروبي على الساحة الدولية. فكيف يمكن للقارة أن تنتقد الفساد في دول أخرى، أو أن تشترط معايير الحوكمة الرشيدة في اتفاقياتها مع الشركاء، بينما تتزعزع ثقة مواطنيها بمؤسساتها الأساسية؟ لقد أصبحت فجوة المصداقية بين الخطاب الرسمي المبني على القيم، وبين الممارسات الفعلية، أكثر وضوحاً من أي وقت مضى.

ختاماً، بينما تستمر التحقيقات في قضية بروج تحت إشراف القضاء البلجيكي والنيابة الأوروبية، يبقى السؤال الأكبر معلقاً: هل تمثل هذه الفضيحة ذروة أزمة تدفع باتجاه إصلاح جذري، أم هي مجرد عاصفة ستمر لتعود الأمور إلى ما كانت عليه، تاركة جذور المشكلة دون معالجة؟ الإجابة ربما تكمن في مدى قدرة المواطنين الأوروبيين ومؤسساتهم على تحويل الصدمة إلى فرصة لتغيير عميق في البنى السياسية للقارة ككل تقوم على بناء مراقبة أكثر صرامة، وشفافية أكبر، ومساءلة حقيقية، تستعيد بها الثقة في أوروبا عموماً، قبل أن تتحول صورة القارة العجوز، في أعين نفسها والعالم، من رمز للقيم إلى مثال على ازدواجيتها.