إنعاش أم إقصاء؟ جدل المقاسم الصناعية بين تشجيع الاستثمار ومخاوف الاستحواذ
منحت وزارة الاقتصاد والصناعة- وفق ما نشرته وكالة سانا بتاريخ 25 تشرين الأول 2025- أصحاب المقاسم في المدن الصناعية مهلة 90 يوماً للشروع الفعلي بعمليات الإنشاء والبناء أو التخلي عن المقسم للغير. أمّا المدة الإجمالية للمشروع كي يدخل مرحلة الإنتاج الفعلي فقد حددتها الوزارة بسنة واحدة فقط، بدءاً من تاريـخ تسوية الوضع أو نقل الملكية.
بهاتين المهـلتين، تبدو الحكومة وكأنها تدفع بقوة نحو «تحريك الاستثمار» ووضع حدٍّ لسنوات من الجمود داخل المدن الصناعية.
لكن قراءة أعمق تكشف أن هذا الضغط الزمني- رغم نيّته الإيجابية المعلنة- يصطدم بواقع تشغيل معقد، وسوق غير عادلة، ومعيقات بنيوية تعاني منها المنشآت القائمة أصلاً، فكيف بالمشاريع التي لم تبدأ بعد؟
مهلة الـ90 يوماً... ضغط للانطلاق ضمن بيئة غير مهيّأة
المهلة الأولى- 90 يوماً- لا تطلب من المستثمر إنجاز الكثير على الورق، لكنها تطلب منه البدء الفعلي بالبناء أو التخلي عن المقسم.
ومع أن هذا الهدف منطقي من ناحية تنظيمية، إلا أن عدداً كبيراً من الصناعيين يرون أنه:
مهلة ضيقة قياساً بطبيعة إجراءات الترخيص والإنشاء، أو بنقل الملكية.
تتجاهل حجم الصعوبات التي تواجهها المنشآت العاملة نفسها.
قد تتحول إلى نافذة تضغط على المتعثرين وتدفعهم إلى البيع القسري.
والسؤال الأوسع:
إذا كانت المنشآت العاملة منذ سنوات تكافح للبقاء، فكيف يمكن لمستثمر جديد البدء بالإنشاء خلال 90 يوماً؟
مهلة السنة الواحدة للإنتاج... سقف طموح يصعب تحقيقه دون إصلاحات كبرى
تحديد مدة سنة واحدة للدخول في مرحلة الإنتاج الفعلي يبدو منطقياً في بيئة صناعية مستقرة، لكن في السياق المحلي، يظهر التحدي بوضوح:
أولاً: دورة الإنشاء الصناعية عادة تستغرق 12–18 شهراً في الظروف الطبيعية وتشمل: الأعمال الإنشائية- تركيب الآلات- التجريب الفني- التعاقدات التشغيلية- التدريب- الحصول على الموافقات النهائية.
هذا الإطار الزمني يتقلص في القرار إلى سنة واحدة، ضمن بيئة تعاني أساساً من صعوبات الطاقة- بطء توريد الآلات- تأخر التصاريح- نقص العمالة الفنية.
ثانياً: لا يمكن لمعامل جديدة دخول الإنتاج فيما المعامل القائمة أصلاً تعمل بنصف طاقتها أو أقل.
فالمعامل العاملة تواجه تحديات كبرى في... تأمين الكهرباء والوقود- تأمين المواد الأولية- الحفاظ على العمالة- مواجهة السوق المليئة بالمستوردات الرخيصة والمهربات.
فكيف يمكن لمنشأة جديدة أن تقف على قدميها خلال سنة فقط؟
مخاوف الصناعيين... بين سحب المقاسم وبين الاستحواذ عليها تحت الضغط
بموازاة الأهداف المعلنة، ظهرت لدى الصناعيين ثلاثة مخاوف أساسية:
ضغط زمني يؤدي إلى البيع القسري، فالمهلة القصيرة قد تدفع أصحاب المشاريع المتعثرة إلى التخلي عن مقاسمهم بأسعار منخفضة، لصالح مستثمرين قادرين على التحرك السريع أو وسطاء يبحثون عن فرصة.
استعادة المقاسم لصالح الإدارة بذريعة عدم الالتزام، فتحديد سنة واحدة للإنتاج قد يتحول إلى أداة لسحب المقاسم وإعادة تخصيصها، خصوصاً إذا لم تُراعَ المعيقات الفعلية التي يعرفها الجميع.
فجوة ثقة في نوايا التطبيق لا في نص القرار، فالنوايا المعلنة إيجابية، لكن تجارب إزالة التراخيص أو التشدد في التنفيذ سابقاً تترك مجالاً للشك.
السياسة الاقتصادية الحالية تزيد الضغط على الصناعة ولا تدعمها
بعيداً عن المهَل، يرى الصناعيون أن المشكلة العميقة تكمن في السياسة الاقتصادية القائمة على السوق المفتوحة، والتي:
تسمح بدخول منتجات مستوردة مدعومة في بلدانها، وهذه المنتجات تدخل السوق المحلي بأسعار أقل من كلفة الإنتاج المحلية، بسب... دعم الطاقة- دعم النقل- دعم التصدير- الإعفاءات الضريبية في بلد المنشأ. في المقابل... المنتج المحلي محروم من أي دعم، ويواجه كلف تشغيل أعلى من المتوسط العالمي.
التهريب يضرب الصناعة في الصميم، فالتهريب المستمر لمنتجات منافسة (بلا رسوم أو ضرائب) يخلق منافسة غير عادلة تجهض قدرة المعامل المحلية على البقاء.
تناقض بين خطاب «تشجيع الصناعة» وسياسة «السوق المفتوحة»، فالحكومة تطلب من المستثمر أن يبني معمله خلال أشهر... بينما تسمح في الوقت ذاته بدخول منتجات منافسة تقلّ أسعارها عن كلفة إنتاجه. هذه المفارقة تجعل أي قرار بمهلة محددة- 90 يوماً أو سنة واحدة- غير قابل للتحقق من دون إصلاح بيئة السوق أولاً.
ماذا يحتاج القرار ليصبح قابلاً للتطبيق؟
حتى يصبح القرار محفزاً للاستثمار لا ضاغطاً عليه، لا بد من:
تحسين منظومة الطاقة وتخفيض تكاليف الإنتاج، فمن دون طاقة مستقرة وعادلة سعراً، لا معنى لمواعيد التنفيذ.
إصلاح إداري يسرّع المعاملات ويوحّد القنوات، فلا يمكن تنفيذ ما يتطلب سنة من الإجراءات خلال 90 يوماً.
ضبط التهريب وإعادة التوازن بين المنتج المحلي والمستورد، فالمنافسة يجب أن تكون عادلة قبل أن تكون مفتوحة.
تقديم تسهيلات حقيقية لا شكلية، على مستوى: التمويل- تقسيط الرسوم- تمديد المهَل وفق احتياجات المشروع.
التحدي الأكبر... إصلاح البنية الصناعية
القرار الحكومي بنصه يبدو خطوة تنظيمية تهدف إلى تحريك المقاسم المجمدة وتحويلها إلى مشاريع منتجة.
لكن على أرض الواقع، ومع وجود مهلة 90 يوماً للبدء وسنة واحدة فقط للدخول في الإنتاج، يصبح تطبيق القرار تحدياً كبيراً ضمن بيئة تفتقر للطاقة المستقرة، وتعاني من منافسة غير عادلة، وإدارة بطيئة، وبنية تشغيلية غير مكتملة، وسوق مفتوحة لمستورَدات مدعومة ومهرّبات تضرب المنتج المحلي.
في ضوء ذلك، يبدو أن التحدي الأكبر اليوم ليس في منح مهلة، بل في إصلاح البيئة الصناعية بحيث يصبح الاستثمار ممكناً... لا مجرد استجابة لضغط زمني.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1255