هل تستطيع أوروبا حقاً الانفكاك عن أمريكا؟
بات واضحاً أن الولايات المتحدة تتجه نحو تقليص نفقاتها والانكفاء نحو الداخل، فالتصريحات الأخيرة، سواء كانت جادة أو هزلية، بين الرئيس الأمريكي وشركائه الأوروبيين، بما في ذلك تهديدات الانسحاب من حلف الناتو، في حال عدم التزام الأوروبيين بزيادة الإنفاق العسكري، تشير إلى أن الولايات المتحدة دخلت في مرحلة جديدة من التعامل مع أوروبا، هذه المرحلة قد تعيد- رغم المقاومة الأوروبية- رسم خريطة العلاقات الأمريكية/الأوروبية سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. ورغم أن البعض يعتقد أن أوروبا ستكون أكثر استقلالية عن أمريكا، إلا أن الحقائق على الأرض تؤكد أن الاعتماد الأوروبي على الولايات المتحدة سيزداد تحت ضغوط أمريكية متصاعدة.
الملف الأمريكي الأساسي: عجز الميزان التجاري
لطالما كان التوسع في الإنفاق العسكري الأمريكي مصدراً للأرباح للولايات المتحدة، لكن مع وصول هذا التوسع إلى طريق مسدود في مواجهة روسيا، وخاصة في الملف العسكري الأوكراني، بدأت داخل الدولة الأمريكية العميقة مقاربات جديدة للتعامل مع الشركاء التجاريين. تصحيح الميزان التجاري الأمريكي، سيصبح العامل الحاسم في بقاء أمريكا قوية بعد هذه الجولة من الحرب. ولضمان استمرار الهيمنة الأمريكية، يتعين على أوروبا أن تتحمل فاتورة الحرب، في سيناريو يشبه ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية.
أعرب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مراراً عن استيائه من العجز التجاري بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، معتبراً أن العلاقة التجارية بينهما «غير متكافئة». في تصريحات حديثة، أشار ترامب إلى أن العجز التجاري الأمريكي مع أوروبا يتجاوز 235 مليار دولار، وطالب بتصحيح هذا الوضع.
بالإضافة إلى ذلك، هدد ترامب بفرض رسوم جمركية على واردات الاتحاد الأوروبي إذا لم تقم دول الاتحاد بزيادة وارداتها من السلع الأمريكية، خاصة النفط والغاز. في يناير 2025، أعلن عن نيته فرض تعريفات جمركية إضافية بنسبة 10% على السلع المستوردة من الاتحاد الأوروبي، مشيراً إلى أن الاتحاد الأوروبي كان «سيئاً للغاية معنا».
كما أعرب ترامب عن استيائه من الفارق في الرسوم الجمركية على السيارات بين الجانبين، حيث تفرض الولايات المتحدة رسوماً بنسبة 2.5% على السيارات المستوردة من أوروبا، بينما يفرض الاتحاد الأوروبي رسوماً بنسبة 10% على السيارات الأمريكية.
هذه التصريحات والتهديدات تعكس توتراً في العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، مع سعي إدارة ترامب لتقليص العجز التجاري، وتعزيز الصادرات الأمريكية. وتجري العملية نفسها مع شركاء تجاريين آخرين، مثل: كندا والمكسيك والصين.
ما مصير أوروبا في ظل السياسة الأمريكية الجديدة؟
لن تصبح أوروبا مستقلة في إنتاج منظومات الأسلحة في أي وقت قريب، حتى مع زيادة الإنفاق العسكري إلى الضعف منذ عام 2014. فبيانات الناتج الصناعي الأوروبي تشهد تراجعاً مستمراً. في عام 2024، واجه القطاع الصناعي الأوروبي تحديات كبيرة، حيث أظهرت البيانات انخفاضاً في الإنتاج الصناعي في العديد من الدول الأوروبية الكبرى. على سبيل المثال: انخفض الإنتاج الصناعي في ألمانيا بنسبة 4% في ديسمبر مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق.
كما أوردت صحيفة «لوموند» أن الإنتاج الصناعي في دول، مثل: ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا شهد انخفاضات ملموسة بين يوليو 2023 ويوليو 2024، مع تسجيل منطقة اليورو انخفاضاً بنسبة 2.2% والاتحاد الأوروبي بنسبة 1.7% خلال هذه الفترة.
وفي نوفمبر 2024، أظهر مؤشر مديري المشتريات في منطقة اليورو انخفاضاً حاداً في الطلب الصناعي، حيث تراجع المؤشر إلى 45.2 من 46 في أكتوبر، مما يشير إلى استمرار التحديات في القطاع الصناعي.
بالإضافة إلى ذلك، أوردت قناة «الحدث» أن أكبر اقتصاد أوروبي، ألمانيا، يواجه أزمة عميقة وسط ضعف في القطاع الصناعي، مع توقعات بتسجيل انكماش في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.1% خلال العام.
الاستقلال الأوروبي: سراب أم حقيقة؟
استقلال أوروبا عن أمريكا في مجال الدفاع يبدو وكأنه سراب. فبعد أن فقدت أوروبا سوق الطاقة الروسية الرخيصة، أصبحت أكثر اعتماداً على موارد الطاقة الأمريكية. ولتصحيح الميزان التجاري مع أمريكا، التي تقلق من تراجع الدولار كعملة احتياطية عالمية، يتعين على أوروبا أن تدفع ثمناً مضاعفاً للحماية الأمريكية. في عام 2024، شهد الإنفاق العسكري الأوروبي زيادة ملحوظة استجابة للتحديات الأمنية المتزايدة، خاصة في ظل الحرب في أوكرانيا، والتغيرات في السياسة الأمريكية. وفقاً للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، ارتفع الإنفاق العسكري في أوروبا بنسبة 11.4% في عام 2024، مدفوعاً بدعم أوكرانيا. كما أشارت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، إلى خطط جديدة لزيادة الإنفاق العسكري قد تصل إلى 800 مليار يورو (841 مليار دولار).
بالإضافة إلى ذلك، يخطط الاتحاد الأوروبي لإطلاق خطة ضخمة لإعادة التسلح لمواجهة التحديات الناشئة عن الحرب في أوكرانيا والتغيرات في الموقف الأمريكي، مع دراسة طرق تمويل متعددة، مثل: إصدار ديون مشتركة، وإعادة تخصيص أموال.
الاستنتاج الأهم، هو أن الانسحاب الأمريكي من أوروبا لن يكون انسحاباً كاملاً، بل سيتحول من الإنفاق المباشر إلى الاستفادة الاقتصادية من التبعية الأوروبية، ففي ظل عدم وجود قوى أوروبية فاعلة تسعى للسلام مع روسيا، وحتى في ظل استفادة واستثمار الولايات المتحدة من حالة العداء الأوروبي/الروسي، ستظل أوروبا عالقة في شبكة المصالح الأمريكية، مما يجعل استقلالها الحقيقي بعيد المنال حالياً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1217