ترامب يسير في مسار إجباري!
ظن البعض بعد تزايد الحديث عن بدء مفاوضات روسية أمريكية تشمل عدداً من القضايا على رأسها أوكرانيا، أن دخول ترامب إلى البيت الأبيض كان «السبب» وراء بدء هذه المفاوضات، وربما يملك الرئيس الأمريكي الجديد بنظر المحللين «مفتاحاً» للحل، ويرون فيما يجري إنجازاً شخصياً له، كما لو أن ترامب بالذات مصدر معلوماتهم عمّا يجري!
في الحقيقة، من كان يتابع ترامب خلال حملته الانتخابية يدرك أنه وعد بالفعل بإنهاء الحرب في أوكرانيا، وتحدث عن شكل جديد للعلاقات مع روسيا، لكن ذلك لا يكفي لتفسير ما يجري حقاً، وربما تكون نقطة البداية المنطقية هي فهم ما جرى في أوكرانيا بالعمق!
ما الذي حدث حقاً؟
بعيداً عن أسباب الحرب المباشرة التي عرضتها موسكو أو كييف، تظل هناك أسباب عميقة، ومن الطبيعي أن تكون هناك مستويات متعددة للفهم، فصحيح أن موسكو استشعرت خطراً في أوكرانيا، وأن النظام السياسي القائم في كييف كان «غربيّ الهوى» وأنّه بالتقارب مع الغرب خرج إلى مسائل محظورة، وتحديداً الدخول في حلف الناتو، فالحلف هو في الحقيقة موجّه ضد روسيا، وحتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وانهيار حلف وارسو، ظلّ الناتو قائماً، ولم يكن من الصعب أن تدرك موسكو أنهّا أحد المستهدفين، إن لم تكن المستهدف الأساسي من هذا التحالف! ولذلك لم يكن من السهل على أي قيادة روسية مهما كانت توجهاتها أن تتجاهل خطراً كهذا، ومع ذلك أظهر بوتين وأركان النظام السياسي الآخرين أنّهم منفتحين للحديث، وحاولوا إيجاد حلول للأزمة الأوكرانية في 2014، حتى وصلت الأمور إلى درجة عالية من التعقيد لم يعد بالإمكان تجنب الحرب.
لكن إذا ما نظرنا بتمعن أكبر إلى هذه المسألة، وطرحنا سؤالاً: ما الذي يدفع الناتو للعداء مع روسيا؟ ولماذا رفض الحلف المحاولات الروسية المتعددة للانضمام؟ وهنا تبدأ الصورة بالتوضح، فروسيا لا يمكن أن تكون طرفاً بنظر الغرب، ولا يمكن التعامل معها على أنّها ند، شأنها في ذلك شأن دول الجنوب العالمي كلها، فهذه الدول الغنية بالثروات والطاقات البشرية الكبيرة، فُرض عليها دورٌ محدد في تقسيم العمل العالمي، ولا يمكن بنظر الغرب نقاش أي تغيير في هذا التقسيم لأن أي إعادة نظر فيه تعني بالضرورة دور مختلف للغرب، وتحديداً في تحديد الاتجاهات العامة في الكوكب، وبالتالي قطع طرق النهب التي اعتادوا العيش عليها، فكان الغرب يرى في نفسه سيد العالم، أما الآخرين فهم مناجم خامات، وسوق استهلاك، فضلاً عن سرقة أدمغتهم بعد سرق ثرواتهم.
انتفاضة دول الجنوب
روسيا والهند والصين وغيرهما من الدول يملكون قدرات اقتصادية كبيرة، ويسهمون بكتلة كبيرة من الانتاج والثروة العالميتين، ولذلك كان لا بد من أن ينتزعوا حقوقهم في المشاركة بصياغة العالم ومؤسساته، لذلك مع كل خطوة يخطوها بلد من هذه البلدان إلى الأمام، كان يلاقي ممانعة شديدة، وتحوّل الناتو فعلياً إلى الأداة الأهم في تضييق الخناق، وهذا ما يفسر أيضاً محاولات توسيع نشاطه والدول المشاركة فيه ضمن آسيا، ليكون بذلك عصاً ترفع بوجه «انتفاضة الجنوب العالمي». على هذا الأساس كانت المعركة بين هذه الدول والناتو قادمة لا محالة، لكن «الصدفة» اختارت أوكرانيا ساحة لهذا الصدام، وما أن حدث الاشتباك حتى كان من البديهي أن تأخذ دول، مثل: الصين والهند والسعودية وغيرهم الكثير موقفاً مخالفاً للإرادة الغربية، فعلى الرغم من بعض الانتقادات التي جرى توجيهها لروسيا من هنا وهناك، إلا أن دول الجنوب كانت تعلم أن روسيا تخوض المعركة عنهم، وأن صمودها ونجاحها سيعني لهم الكثير، لذلك كان يكفي في الحد الأدنى ألا ينخرطوا في العقوبات الغربية، ويفسحوا المجال للاقتصاد الروسي للتنفس، ما ضمن لروسيا ثباتاً في ساحة القتال.
في 27 شباط 2022 كنا في قاسيون قد قلنا في افتتاحية العدد 1059 إن «الملامح الكبرى لعالم ما بعد أوكرانيا، قد بدأت بالتوضّح منذ الآن» وتحت عنوان «عالم... ما بعد أوكرانيا» ذهبنا لعرض جملة من الأفكار، كان أبرزها: أن الشكل الحالي للنظام السياسي العالمي أصبح منتهي الصلاحية، وسيكون للصراع في أوكرانيا أثر كبير وحاسم في صياغة النظام السياسي الجديد، وأشارت الافتتاحية أيضاً إلى أن ما يجري سيضع مستقبل حلف الناتو على المحك، لا بل سيعيد النظر بكل فكرة الأحلاف العسكرية.
قاسيون استمرت في الأسابيع الأولى بعد بدء الحرب في أوكرانيا في البحث لا فقط في الأسباب العميقة لما يجري، بل أيضاً للنتائج اللاحقة لهذا الزلزال، واليوم يمكننا القول: إن ترامب والتوجه نحو إنهاء الحرب في أوكرانيا هو تعبير عن اتجاه موضوعي، ويحاول تيار ترامب التعبير عنه، وحتى لو لم يكن ترامب نفسه موجوداً، لكان هذا الاتجاه سيفرض نفسه في نهاية المطاف! فحتى بالنسبة لإدارة بايدن لم يكن من الممكن الاستمرار أكثر في هذا الاتجاه، وكان لا بد أن نصل إلى لحظة النهاية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1215