«قمّة قازان» طريقة جديدة لفهم العلاقات الدولية
فرضت قمة بريكس- التي عقدت أعمالها في قازان الروسية- حضوراً قوياً على الساحة الدولية، ونالت حصّة كبيرة من اهتمام وسائل الإعلام، فهذا الحدث لم يعد مجرد نادٍ لتبادل وجهات النظر كما يحلو للبعض أن يصفه، بل هو في الواقع الشكل الأبرز للتعاون بين «دول الجنوب» النامية، ويتحول تدريجياً إلى زئير مُزلزل لم يعد ممكناً تجاهله.
قمة بريكس السنوية لا تقدم مادة مكثفة لكل المهتمين بالعلاقات الدولية فحسب، بل باتت أيضاً تفرض نقاشَ ما يرتبط بالنظام الدولي والتغيرات الجذرية التي تطرأ عليه كلها، والقمة لهذا السبب بالتحديد تتحول إلى فرصة لقياس حجم التحولات العالمية، والأفكار المرتبطة بهذه العملية كلها.
«قراءة متواضعة»
نقلت وكالة بلومبرغ آخر توقعات صندوق النقد الدولي بشكلٍ متزامن مع انعقاد قمة بريكس، التي قالت فيها المؤسسة: إن «الاقتصاد العالمي سيعتمد على دول بريكس بشكل أكبر من اعتماده على دول مجموعة السبع خلال السنوات الخمس المقبلة»، وإن كانت هذه الأحاديث تبدو استشرافاً للمستقبل بالنسبة للبعض، إلا أنّها تبدو متواضعة في قراءة الواقع الحالي، وحقيقة التوازنات الاقتصادية العالمية الجديدة، فمع تقدم دول الجنوب وزيادة إسهامها غير المسبوق في الاقتصاد العالمي، باتت تطمح بشكلٍ واضحٍ إلى إيجاد معادل سياسي لأوزانها الاقتصادية، يُمكّنها من انتزاع حقها في تقرير شكل ومستقبل العالم الذي نعيش فيه معاً.
من هنا يمكننا النظر إلى مسألتين أساسيتين حول قمة بريكس الأخيرة، الأولى: ترتبط بكيفية فهم وتقييم ظاهرة مثل «بريكس». الثانية: ترتبط بموضوع إنهاء الدولرة في اقتصادات دول المجموعة وضرورة إيجاد بدائل عن المؤسسات المالية التي يسيطر عليها الغرب.
استضافت قازان عاصمة جمهورية تتارستان في الاتحاد الروسي أعمال قمة «بريكس +» التي انطلقت يوم الثلاثاء 22 واستمرت حتى 24 من شهر تشرين الأول الجاري، وشاركت في أعمالها 36 دولة مُثّلت 22 منها على أعلى المستويات، بالإضافة إلى حضور 6 منظمات دولية، كان أبرزها مشاركة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، وكان لهذا الحضور الدولي الواسع، صدىً واسعاً، إذ جاء بمثابة إشارة جديدة إلى أن روسيا لا تعيش أي عزلة في ذلك القطاع الحيوي من العالم، الذي بات يساهم اليوم بأكثر من 37% من الناتج الإجمالي العالمي، وحصة كبيرة من الإنتاج الصناعي والزراعي العالمي تحديداً، بل إن دول المجموعة والمهتمين فيها بعيدون عن الشروط التي يحاول الغرب فرضها في العلاقات الدولية، فهم يبحثون عن تحقيق أكبر كمٍّ من المصالح الاقتصادية، ويرون في المجموعة إطاراً ملائماً لتحقيق هذا الهدف.
وبالنظر إلى طبيعة النقاشات الدائرة حول المجموعة وأهدافها المعلنة، يبدو أن هناك سوء فهم كبير، ربما يكون منشأه شكل العلاقات الدولية التي سادت في ظل عالم الأحادية القطبية، فنرى أن هناك محاولة لقياس مدى متانة تكتل بريكس باستخدام أدوات قياس عفا عليها الزمن، ونقصد تحديداً ذلك النمط الببغائي الغربي، فما عرفناه سابقاً كان شكلاً يجري فيه عرض الموقف الأمريكي ذاته، لكن بلغات مختلفة، وظلّت التباينات خجولة وتكاد تكون غير ظاهرة، بينما نرى اليوم أن بين دول بريكس اختلافات في عدد من المجالات، لكن وجودها ضمن المجموعة يعني شيئاً واحداً، وهو أنهم يمضون جميعاً في مسار تشكيل نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، وهذا ما قاله الرئيس الروسي في افتتاح القمة، وأضاف، أن المسار «دينامي ولا رجعة فيه» وإن شراكة هذه الدول في إنجاز هذه المهمة تمر تحديداً عبر إقرار تنوع العالم ورؤى دوله، وتؤكد أن اختلافات من هذا النمط ليست معيقة في خلق نموذج جديد يؤمن مصالح الجميع.
هل تتناقض مواقف الدول من الدولار حقاً؟
مسألة الدولار ودوره في الاقتصاد العالمي لم تنشأ من منابر «بريكس» أو حتى «بريك» بل هي مسألة فرضها الواقع الموضوعي، والتراجع الأمريكي، وتحديداً حصة الولايات المتحدة في الإنتاج العالمي، فالواقع الذي سمح بفرض الدولار الأمريكي على العالم تغيّر، وكانت طروحات بريكس في هذا الخصوص إحدى نتائج هذا التغيير وليس العكس، ومن هذه النقطة بالتحديد، يمكننا القول: إن مسألة مصير ودور الدولار في الاقتصاد العالمي مطروحة، لا فقط داخل غرف دول بريكس المغلقة، بل في العالم أجمع، لكن المشكلة تكمن في أن الدولار الأمريكي لا زال قادراً وبقوة العطالة، أن يترك ثقلاُ كبيراً في الاقتصاد العالمي، فمع وجود إجماعٍ عالمي على إلغاء حصرية الدولار في التبادلات التجارية، إلا أن نسبة إنجاز هذه المهمة لا تزال متباينة من دولة إلى أخرى، وتسهم بريكس فعلياً بتسريع هذه العمليات، بل وأيضاً إيجاد البدائل الملائمة.
وبالرغم من دخول دول جديدة إلى المجموعة لا تزال متخلفة في عملية إنهاء الدولرة، إلا أن ذلك يعني أن إتمام المهمة سيقلص حصة الدولار من الأسواق أكبر بكثير من السابق، فروسيا مثلاً وتحديداً بعد الحرب الأوكرانية باتت تعتمد في 95% من تعاملاتها الخارجية على عملات أخرى غير الدولار، بل وتلجأ إلى وسائل أخرى، مثل: اتفاقيات مقايضة البضائع، كتلك التي حصلت فيها روسيا على فاكهة اليوسفي من باكستان في مقابل تصدير الحمص والعدس، وهو ما يضعنا أمام نموذج متقدم في إنهاء الدولرة، ولكن ينبغي الانتباه إلى أن ظرفاً روسياً محدداً ساهم في تسريع هذه العملية بشكلٍ غير مسبوق، فالرئيس الروسي أشار في أثناء انعقاد قمة قازان «نحن لا نمتنع عن استعمال الدولار، أو نحاربه، ولكن إذا كانوا لا يسمحون لنا بالتعامل به، ماذا نفعل؟» فالواقع وضع أمام موسكو خيارات محدودة للحفاظ على بقاء الدولة، وكان الاستغناء عن الدولار شرطاً أساسياً في استمرار عجلة الاقتصاد، وهو ما سمح لروسيا بتحقيق قفزات نوعية في هذا الإطار.
حرب أوكرانيا أدّت دوراً كبيراً في تسريع عملية إنهاء حصرية الدولار، وضرورة إعادة صياغة علاقة الدول في المؤسسات التي تسيطر عليها الولايات المتحدة، فروسيا التي رأت نفسها مضطرة للدخول في حرب دفاعاً عن مصالحها، وجدت نفسها عرضةً لنوع جديد من البلطجة، فيعمل الغرب بقيادة واشنطن على نهب ما يقارب 300 مليار دولار من أموال الشعب الروسي، جرى تجميدها في البنوك الغربية، هذه الحادثة كانت بمثابة إنذار خطير لدولٍ كثيرة أخرى، أدركت أنّها قد تجد نفسها في موقع موسكو ذاته! وربما يكون الإقبال الشديد على التعاون مع بريكس هو أحد أشكال الاستعداد لمواجهة محتومة مع الإمبراطورية الأمريكية المتداعية، التي دخلت تحت وطأة أزمتها المتفاقمة في حلقة من البطش لن يسلم منها حتى «الأصدقاء».
من الطروحات البارزة في قمة قازان الأخيرة كان الحديث عن إنشاء نظام مدفوعات سيسمح للدول بإجراء تسوية تجارية بينية، دون اللجوء إلى نظام سويفت المرتبط بالدولار والخاضع إلى سيطرة الولايات المتحدة، ومن المقرر أن يصبح النظام «جسر بريكس» جاهزاً للعمل في غضون عام، ويمكن لهذا النظام فعلياً أن يفتح الباب لتسهيل عمليات التبادل بالعملات المحلية، عبر إيجاد معادل بديل عن الدولار يمكن أن يكون عملة إلكترونية خاصة ببريكس، وبالرغم من أن التفاصيل الكاملة حول هذه الخطوة لا تزال غير مكتملة، إلا أن خطوة من هذا النوع يمكن أن تخلق مساراً لدول بريكس للابتعاد عن الدولار، وتمكنها من امتلاك الأرضية التقنية اللازمة لذلك، والتي سيجري إنشاؤها بشكل توافقي، ويلائم مصالح دول المجموعة جميعها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1198