احتجاجات بريطانيا: نمطٌ مُعمّمٌ أم مُصادفة «تاريخيّة»؟
أحمد علي أحمد علي

احتجاجات بريطانيا: نمطٌ مُعمّمٌ أم مُصادفة «تاريخيّة»؟

في الآونة الأخيرة، شهدت بريطانيا أحداثاً مهمّة بمعانيها وتفاصيلها، و«انتهت» بأحداث عنف وشغب اجتماعي لافتة، ورغم أنها خفتت نسبيّاً الآن، لكنّها لم تنتهِ بعد. بشيءٍ من التفصيل، سنتناول هنا ما حدث، وسنتطرق بحديثنا إلى بعض القضايا الأساسيّة المرتبطة، ثم ننتقل بعدها لربط الأحداث ومحاولة تحليلها وفهمها.

من هو تومي روبنسن؟ ماذا جرى في بريطانيا؟ وما علاقته بما جرى في تركيا؟ ماذا نلاحظ؟ وما النتيجة؟

شرارة أوليّة

في نهاية شهر تموز/يوليو 2024، قام الناشط اليمينيّ المتطرّف المعروف باسمه المزيّف تومي روبنسون، بتنظيم تظاهرة احتجاجيّة في لندن. تضمنّت مسيرٍ من محكمة العدل الملكية إلى ميدان ترافالغار في لندن، حيث تجمع الآلاف من أنصاره. وخلال المسير، رُفعت شعارات مناهضة للإسلام، وصاح المجتمعون صيحات عنصرية.
كان هذا الحدث، وحدث آخر مرتبط بحادثة طعن قُتلت فيها ثلاث فتيات صغيرات في مدينة ساوثبورت (Southport) البريطانية؛ بمثابة حافز لتصعيد التوترات في العاصمة البريطانية، خصوصاً مع اتهام «روبنسون» وجماعته، مهاجراً مسلماً بقتل الفتيات، وترويجهم الهائل لهذه المزاعم التي تبيّن لاحقاً عدم صحتها.

من الاحتجاجات إلى أعمال الشغب

تطوّرت الأحداث بسرعة كبيرة، حيث اندلعت احتجاجات كبيرة في لندن شملت مسيرات ومظاهرات مضادة. وواحدة من هذه المسيرات كانت لدعم المهاجرين، ورفض «الإسلاموفوبيا» والعنصرية، قادها ما يسمى بـ «مشروع السلام والعدالة» بدعمٍ من عدّة نقابات عماليّة ومنظمات مناهضة للفاشيّة.
وعلى الجانب الآخر، اجتذبت احتجاجات روبنسون الكثير من اليمينيين المتطرفين. ورغم محاولات الشرطة الفصل بين المجموعتين، إلّا أن الصدامات كانت حتمية، حيث أُبلغ عن اعتقالات عديدة وإصابات بين المتظاهرين وأفراد الشرطة، مع وقوع أضرار مادية في الممتلكات العامة والخاصة.
ووفقاً لتقارير الشرطة، نشر حوالي 1000 ضابط في شوارع لندن، ومع ذلك دُمّرَت واجهات العديد من المحلات التجارية، وأُشعلت النيران في عدد من السيارات، وتعرّضت الممتلكات العامة، للتخريب والضرر، مثل: المباني الحكومية، ومحطات المواصلات، والهواتف العمومية، وأعمدة الإنارة. كما حُطّمت نوافذ وكُتبت شعارات متطرّفة على الجدران.

الحادثة التركية

السابق، هو تلخيص مكثّف لما جرى في بريطانيا، لننتقل الآن للحديث قليلاً عما جرى في تركيا. قبل فترة ليست بعيدة وقعت جريمة مأساوية قُتلت فيها فتاة سورية على يد والدها، الأمر الذي أثار ردود فعل غاضبة، وأعمال عنف ضدّ اللاجئين السوريين. وفي تعليقه على ذلك، تحدّث وزير الداخلية التركي عن نشاط مشبوه على وسائل التواصل الاجتماعي، ملمّحاً إلى أنّ هنالك محاولات للتحريض على الكراهية والانقسام.
الحدث التركي، شابه في سياقه ما يحدث في بريطانيا الآن. فبالنظر إلى الحادثتين، يمكن ملاحظة تكرار لنمط معين: تُستخدم جريمة، أو حدث عنيف كوسيلة لتحريك الرأي العام وتحريضه ضدّ فئة معينة، وذلك عبر استغلال الإعلام والشخصيات المؤثرة لتأجيج الكراهية وزرع الفوضى، ومن ثمّ تتحوّل الأمور إلى صدامات شعبية عنيفة ومدمّرة.

«وصفة جاهزة»؟

بالاعتماد على أوجه التشابه بين ما جرى في تركيا وبريطانيا، يمكن القول: إنّه أصبحت هنالك كما يبدو «وصفة جاهزة» يتم تطبيقها حيث يتطلب الأمر والضرورة. وتصريح وزير الداخلية التركي هو تصريح لافت في هذا الإطار، ويدعم فكرة أن هذه الأحداث قد تكون جزءاً من عمليات أكبر تُدار على مستوى دولي، ووراءها جهات لها مصالح. أيضاً، هنالك مؤشرات أخرى تدعم هذا الحديث، إذْ تتخوّف مصادر بريطانية عدّة من كون «روبنسون» بدأ بتوسيع نطاق تأثيره خارج حدود بريطانيا، وذلك باتجاه إقامة روابط مع حركات يمينيّة متطرّفة في أوروبا وأمريكا الشمالية.
علاوةً على ذلك، هنالك العديد من التحليلات التي تذهب للقول: إنّ هنالك علاقة مباشرة وتنسيقاً مباشراً لروبنسون مع «إسرائيل». كما أنه من المفيد في هذا الإطار لفت النظر إلى سلوك رجل الأعمال الكندي - الأمريكي الشهير إيلون ماسك إزاء ما حدث في بريطانيا؛ حيث وجهت الحكومة البريطانية طلباً مباشراً له، وحثته على التصرف بمسؤولية، وذلك بعد إقدامه على نشر سلسلة من المنشورات عبر منصة (X)؛ منشورات رأى فيها المسؤولون البريطانيون سبباً في تأجيج الاضطرابات.

«مملكة الشمس» الآفلة!

على أيّ حال، عند تحليل أحداث من هذا النوع لا يمكن على الإطلاق إغفال أنّها تنبع بالحقيقة من واقع اجتماعي - اقتصادي محتقن. في بريطانيا، تعمّقت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية بشكل كبير في السنوات الأخيرة، ما جعل المجتمع أكثر عرضة للتأثر بالتحريض الخارجي والداخلي.
وبطبيعة الحال، فإنّ الواقع المحتقن هذا يهدّد سلطات البلاد، لأنه من الممكن أن ينفجر بوجهها بأيّ لحظة. ومع معطيات كهذه، تكون السلطات البريطانية في واقع لا تحسد عليه، لذا فهي -كما يبدو- تعمل جاهدة على تحويل انتباه مواطنيها عن الأزمات الحقيقية التي تواجه البلاد، وتحويل غضبهم واستيائهم بعيداً عن الحكومة وسياساتها. أي محاولة خلق نوع من التشتّت العام، الذي يتم عبره تجاهل القضايا الأعمق والأكثر تأثيراً، مثل: الفقر، البطالة، وأزمة الإسكان وغيرها، وتحميل وزر الأزمات مجتمعة على ظهر اللاجئين والمهاجرين، الذين لطالما كانوا ورقة سياسية، يجري عبرها تصفية الحسابات داخلياً وخارجياً لدى الغرب بأجمعه. وبهذا يصبح من المفهوم الخطاب والبرنامج الواحد الذي تحمله قوى متطرفة في بريطانيا وأوروبا، ووظيفته امتصاص الأزمات الكبرى الخانقة التي تعيشها المنظومة.
إنّ مستوى الاحتقان الذي وصل إليه الوضع في بريطانيا يشير إلى أن الأزمة التي تعيشها البلاد عميقة وتتطلب معالجة جذرية. فالاحتجاجات العنيفة والاضطرابات الاجتماعية ليست مجرد رد فعل عابر، بل تعكس الغليان الشعبي البطيء الذي سيتفاقم وسينفجر بوجه حكّام مملكة الشمس الآفلة عاجلاً أم آجلاً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1188
آخر تعديل على الأحد, 18 آب/أغسطس 2024 22:31