«إعلان بكين» أبعد ممّا جاء في صفحاته!

«إعلان بكين» أبعد ممّا جاء في صفحاته!

وقّعت الفصائل الفلسطينية يوم الثلاثاء 23 تموز الجاري على وثيقة جديدة لتحقيق المصالحة الوطنية، فالمباحثات التي استضافتها بكين منذ يوم الأحد 21 من الشهر الحالي اتسمت بدرجة عالية من الجدية، وتحمل في تفاصيلها ونتائجها مؤشرات مهمة، وهو ما يفسر محاولات الهجوم على اللقاء، أو التقليل من أهميته وجدواه.

لم يكن توقع صدور «إعلان بكين» مسألة صعبة، فالصين تعمل بجد على عدد من الملفات الشائكة والتحديات الكبرى على الساحة الدولية، والإعلان الذي وقع عليه 14 فصيلاً فلسطينياً يُجسّد بأحد جوانبه المسعى الصيني الثابت لحل الملف، الذي تحوّل مع السنوات إلى عقبة أساسية في عملية حل القضية الفلسطينية.

كلام حق يراد به باطل!

يحاجج البعض في معرض تحليل دلالات «إعلان بكين» فيقولون: إنه واحد من لقاءات عديدة سابقة، اتفقت فيها الفصائل على بيانات وخطط عمل ومخارج مفترضة للأزمة الوطنية العميقة، وعلى هذا الأساس يجري تقديم اللقاء الأخير في الصين بوصفه «حدثاً شكّلياً»، وأنّ توقيع الفصائل على البيان ما هو إلا «مجاملة وشكر» للجهود الصينية، ولا يعني استعداداً سياسياً لتنفيذ بنوده.
كل هذا وغيره الكثير مما يجري ضخه بشكلٍ مدروس يتسق مع الموقف «الإسرائيلي» الرسمي، إذ علّق وزير خارجية الكيان، يسرائيل كاتس على «إعلان بكين» وقال ببساطة: «لن يحدث» وأكد مجدداً أوهام جيش الاحتلال «بسحق حماس» وأضاف أن «محمود عباس سوف يراقب غزّة من بعيد» في إشارة واضحة لرفض إحدى النقاط الجوهرية في «إعلان بكين» التي تشير إلى وحدة غزة والقطاع والقدس وضرورة خضوعها لقيادة حكومة الوحدة الوطنية المزمع تشكيلها.

ما الذي يميز «إعلان بكين»؟

إن المساعي الحثيثة التي جرى بذلها خلال سنوات طويلة لرأب الصدع الفلسطيني، وكل البيانات والإعلانات لم تفضِ إلى حلٍ ناجزٍ بعد، وهذا مما جهّز الأرضية لقبول أفكار مشكّكة كالتي عرضناها، فالشعب الفلسطيني يريد بحق الوصول إلى وحدة فلسطينية حقيقة، لكن ثقته بقدرة الفصائل على إنجاز المهمة باتت منخفضة بشكلٍ واضح. لكن ذلك كله لا يكفي لتفسير وفهم أهمية الخطوة الصينية.
«المصالحة الفلسطينية» لم تعد شأناً فلسطينياً داخلياً، فهي في الواقع قضية سياسية تؤثر بشكل كبير على الملف الفلسطيني ككل، وبالتالي بقاء الشقاق الفلسطيني يلعب دوراً سلبياً في استقرار الإقليم، من هذا الباب تحديداً حاولت دول عربية، مثل: مصر والجزائر الدخول على هذا الخط والعمل على حلّه، ولكن المساعي هذه لم تصل إلى الهدف المنشود.
في المستوى البسيط الأول، يمكننا القول: إن الوضع الحالي يلائم بعض الأطراف الفلسطينية، وتحديداً تلك المرتبطة باتفاقية أوسلو التي تحوّلت تدريجياً إلى تَبَنٍ لمواقف مهادنة للاحتلال والولايات المتحدة، لكن هذه القوى لم تعد صاحبة الكلمة الفصل، وحتى أنها لا تمثل المزاج العام داخل فتح نفسها، ولا ضمن منظمة التحرير بالطبع، ومع ذلك ظل إنجاز المصالحة مسألة شائكة، ما يسمح لنا بفهمها في مستواها الأعلى والأعقد.
إن شق صفوف الفلسطينيين كان هدفاً صهيونياً وأمريكياً وغربياً، وكان تثبيت الاضطرابات في علاقات الفصائل فيما بينها بنداً أساسياً على جدول أعمال الأعداء، أي أنّ هناك قوى عظمى خلف القوةّ الإقليمية «إسرائيل»، عملت على تفجير هذه العلاقات، وإعاقة حل أي خلافات يمكن أن تنتج، ما أدى إلى تراكمها مع الزمن، حتى أصبحت قائمة طويلة من الخلافات الجوهرية. على هذا الأساس حمل دخول قوى عظمى، مثل: روسيا والصين على خط المصالحة معنى مختلفاً عن كل ما سبق، فهو يعكس بالدرجة الأولى أن هذه القوى ترى إنجاز المصالحة، هدفاً ينسجم مع سياستها وأمنها الوطني، وتبذل لذلك جهداً واضحاً لتجاوز المشكلة، من جانب آخر إن وجود قوى بهذا الوزن تدفع باتجاه المصالحة يعني أن هناك اليوم مشروعين متناقضين، واحد يرعاه الكيان والولايات المتحدة يهدف لترسيخ الوضع الراهن، وآخر يهدف إلى إنجاز المصالحة المطلوبة ترعاه روسيا والصين وقوى إقليمية أخرى، فوزير الخارجية الصيني وانغ يي قال على هامش لقاء بكين: «المصالحة شأن داخلي للفصائل الفلسطينية، لكن تحقيقها لا يمكن أن ينجز دون المجتمع الدولي» مشيراً إلى حرص الصين في الحفاظ على السلام والاستقرار في الشرق الأوسط.

ماذا تعني المصالحة الوطنية الفلسطينية؟

استمرار الانشقاق الداخلي الفلسطيني يعني إعاقة أي حل ممكن للقضية الفلسطينية، فالممثلين المفترضين لإرادة الشعب الفلسطيني يتقاتلون فيما بينهم ولا يتفقون حتى على أهداف مرحلية، وهذا تحديداً ما سعت موسكو والصين لتغييره في اللقاءات الأخيرة، فاليوم هناك خطوط عريضة لاتفاق على المؤسسات الشرعية ودورها وتحديداً منظمة التحرير، الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وهناك أيضاً اتفاق على قيام دولة فلسطينية على أراضي الضفة والقطاع والقدس، مع ما يعنيه ذلك من مشروع فلسطيني وطني لليوم التالي للحرب وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية الصيني بالقول: «فلسطين يملكها الفلسطينيون ويقودونها ويحكمونها» بتناقض صارخ مع المشروع الصهيوني والأمريكي الذي يعتبر الفلسطينيين غير معنيين بـ «مشاريع اليوم التالي للحرب».

السبب الأساسي للتفاؤل في إعلان بكين لا يمكن قراءته فقط ضمن بنود الإعلان رغم أهميتها، وإنما يرتبط تحديداً بكون هذا الإعلان بالذات خرج من الصين، وبحضور وزير الخارجية الصيني، ويتسق في الوقت ذاته مع المسعى الروسي في هذا الخصوص، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار الموقف الرسمي المعلن لهاتين القوتين الدوليتين من الدور الأمريكي في الملف الفلسطيني، يمكننا حينها أن نفهم حجم هذه الخطوة وارتداداتها اللاحقة التي تسرّع من عملية الفرز داخل القوى السياسية الفلسطينية، وتحضر المنطقة للمرحلة اللاحقة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1185
آخر تعديل على الإثنين, 05 آب/أغسطس 2024 12:26