قراءة هادئة في نتائج الانتخابات البرلمانية الفرنسية

قراءة هادئة في نتائج الانتخابات البرلمانية الفرنسية

شكّلت نتائج الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية الفرنسية إرباكاً لدى البعض، خاصة أنّها خرجت بنتائج متناقضة، الاستنتاجات الأولية لحملة الترويج الإعلامية العالمية التي توقّعت فوز تحالف أقصى اليمين، ومع ذلك يظهر أن قراءة ما جرى بشكل معمّق تظل غائبةً عن الأضواء، في مقابل مساحة واسعة تخصص لترويج أفكار واستنتاجات متسرّعة!

يمكننا إذا ما أردنا تكوين صورة أولية عن طبيعة المشهد السياسي الحالي، أن ننطلق من فهم مسألتين أساسيتين، هل كانت النتيجة «صادمة وغير متوقّعة» حقاً؟! وهل يمكننا القول: إن قوى اليسار قادرة بالضرورة على تنفيذ برنامجها؟

هل النتيجة كانت صادمة حقاً؟

بينما سوّقت وسائل الإعلام بشكلٍ أو آخر لازدياد أوزان التيارات اليمينية في أوروبا وفي فرنسا تحديداً، كانت في الوقت نفسه تحاول إبقاء الأضواء بعيدةً عن قوى اليسار على اختلاف مشاربها، في حين أثبتت كلُّ انتخاباتٍ جديدة في أوروبا، أن ما يجري في الواقع هو ظهور اتجاه شعبي واسع يبحث عن بديل للقوى السياسية المتحكمة بالأنظمة السياسية في أوروبا، هذه القوى التي تثبت في سياساتها أنّها تابعة للولايات المتحدة، وبعيدة عن تلبية مصالح وطموحات شعوب القارة، وعلى هذا الأساس تتجه أصوات الناخبين إلى قوى المعارضة، ويتأثر مزاجهم بطبيعة الحال بكثيرٍ من الشعارات السياسية المرفوعة، وعلى هذا الأساس لم يكن بالإمكان الجزم بأن هناك «ولاءً خالصاً» لهذا التيار أو ذاك! فهم هذا التفصيل كان يكفي لإدراك أن الحظوظ في فرنسا مثلاً يمكن أن تكون متساوية بين «التجمع القومي اليميني» وبين «الجبهة الشعبية الجديدة اليسارية»، بل يمكن لهذه الأخيرة كما جرى أن تحرز نتائج تحسم الانتخابات لمصلحتها.

الجبهة الشعبية الجديدة

يُعدّ هذا التحالف نسخة جديدة من الجبهة اليسارية التي جرى تشكيلها عام 1936 بقيادة ليون بلوم، ونجحت فعلًا في السيطرة على الحكومة، إلا أنها انهارت في 1938 بعد سلسلة من التصدعات، ورغم الآمال الكبيرة المعلّقة على هذا التحالف إلا أن قدرته على تلبيتها تبقى مرهونةً بعددٍ من المسائل، ربما يكون أبرزها: الاختلافات في طبيعة الأحزاب السبعة المنضوية ضمنها، فمع أنّها ترفع يافطة اليسار إلا أن درجة جذرية هذه القوى متباينة، بل إن أحد مكوناتها «الحزب الاشتراكي» حصل على مقعد الرئاسة مرتين، إذ وصل فرانسوا ميتران عام 1981 إلى هذا المنصب، ثم جاء فرانسوا هولاند إلى رئاسة فرنسا عام 2012 ومع ذلك لم يقدم الحزب في الواقع نموذجاً نوعياً جديداً.
الجبهة الجديدة اتفقت على برنامجٍ واعدٍ، هو بحد ذاته خطوة مهمة، ونجح حتى الآن في تنسيق خطواته، ما يُظهر مستوى مرتفعاً من الجدية والتحلي بالمسؤولية، لكن ذلك لا يكفي للقفز إلى استنتاجات نهائية، التي سيكون الواقع وحده كافياً بتقديمها.

عقبات أمام الحكومة القادمة

حجزت «الجبهة الشعبية الجديدة» 182 مقعداً برلمانياً، في حين كانت حصّة «الأغلبية الرئاسية» التي يقودها ماكرون 168 مقعداً، ليبقى «التجمع القومي» وحلفائه في المركز الثالث بـ 143 مقعداً، مع تربّع «الجبهة الشعبية الجديد» في الصدارة إلّا أنها تظل بعيدة عن الأغلبية المطلقة بأكثر من 100 صوت، ونظرياً يمكن للرئيس ماكرون أن يكلّف أياً من الكتل البرلمانية بتشكيل الحكومة، التي سيكون أمامها اختبار صعب لكسب الثقة، ومن هنا تجاهل الرئيس إعلان الجبهة عن استعدادها للحكم، وبدأ بمناورة جديدة، إذ دعا الكتل إلى بناء «تحالف وطني» ما يعني أن وقتاً إضافياً لبناء تحالفات جديدة داخل البرلمان يمكن بأحد سيناريوهاتها أن تصبح «الأغلبية الرئاسية» جزءاً من الحكومة القادمة، دون أن يلغي ذلك احتمال تشكيل حكومة يسارية، لكن ذلك يظل مرهوناً بحصولها على الأغلبية، التي يمكن أن تهددها توافقات بين اليمين الحاكم، واليمين الموجود في المعارضة.
ما سبق، يؤكد دخول ثاني أكبر قوة في أوروبا مرحلة جديدة بلا شك، سيكون عدم الاستقرار سمتها الأساسية مع تجاذبات حادة. يشكّل برنامج الجبهة الشعبية الجديدة كابوساً بالنسبة لطبقة الأقلية في فرنسا، الذين بدؤوا فعلًا التفكير بالهرب، وربما سحب أموالهم إلى الخارج، كون برنامج الجبهة اليسارية يضع الضرائب على الأغنياء حلاً أساسياً لتمويل الإنفاق العام في صالح غالبية الفرنسيين.

حزب فرنسا الأبية اليساري الجذري، هو القوة الأساسية والأكثر تنظيماً في صفوف الجبهة الشعبية، ما يجعل قدرتها أكبر على تجاوز المخاطر القادمة، التي لن تكون من داخل فرنسا فحسب! فما يجري هناك وإمكانية وصول برنامج كهذا إلى السلطة يقلق النخب الأوروبية أيضاً، ومن خلفهم الولايات المتحدة الأمريكية، فهؤلاء يدركون جميعاً أن فرنسا كانت السباقة دائماً، لهذا سيكون إفشال هذه التجربة هدفاً لقوى كثيرة، فإلى جانب مسعى «الجبهة الشعبية الجديدة» المعلن لإنها «سياسة الليبرالية الجديدة والاستبداد السابقة» هناك أيضاً إشارات إلى توق لسياسات خارجية أكثر استقلالية، وبعيدة عن الإملاءات الأمريكية، وهو تحديداً ما يمكن أن يدفع واشنطن للانخراط في تعقيد المشهد، أملاً في منع انتشار أفكار كهذه في أوروبا.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1183