صورة بانورامية للإقليم واتجاه التطور القادم

صورة بانورامية للإقليم واتجاه التطور القادم

مع الأيام القليلة التي تلت «طوفان الأقصى» ظهر من جملة الآراء المطروحة رأيٌ مفاده، أننا أمام تغيير جذري في المنطقة، وسرعان ما سيصبح 7 أكتوبر 2023 تاريخاً مفصلياً في قراءة المشهد. فأين نقف اليوم؟ وما هي ملامح الفترة المقبلة؟

رفح مأزق جديد

مع بدء الحديث عن «عملية رفح» كانت حلقات مأزق «إسرائيل» والولايات المتحدة قد اكتملت، فالاجتياح الصهيوني للقطاع الذي جرى ضبطه وهندسته في واشنطن وصل بالفعل إلى طريق مسدود، فمنذ إعلان جيش الاحتلال عن دخول بري إلى القطاع، وُضعَ أمامنا هدفٌ معلن، وهو «القضاء على المقاومة في غزّة» وتغيير الواقع السياسي القائم منذ 2006، لكن هذا العنوان العريض، ورغم استخدامه في الدعاية الصهيونية - الأمريكية حتى اللحظة، إلا أنّه كان موضع شك داخل الكيان وفي واشنطن أيضاً، ومع ذلك لم يتغير الهدف المعلن طوال هذه المدّة، وإذا أردنا النظر إلى الحدث بعيداً عن هذه الدعاية، لكان واضحاً أن هدف الولايات المتحدة كان مختلفاً تماماً إذ لا يمكن التسليم بسذاجة بالأهداف المطروحة من على منابر السياسيين، فهناك دائماً أهداف عميقة غير معلنة، وهي تحديداً ما حاولت ماكينة الحرب تحقيقها خلال الشهور الماضية.
وفي رفح، كنا ندخل مرحلة مختلفة تماماً، كونها الحد الجغرافي النهائي في القطاع، فجيش الاحتلال بدأ عملياته في الشمال، وانتقل من منطقة إلى أخرى مروراً بوسط القطاع حتى جنوبه، ومع تقدمه المتعثر كانت عملية تسخين المنطقة تجري بوتيرة عالية، وهو الهدف الحقيقي من كل ذلك، وازدادت الضغوط بالجملة على دول الإقليم كافة، وخصوصاً مع اشتعال مضبوط للجبهة جنوب لبنان، وارتفاع معدل العمليات ضد القواعد الأمريكية في العراق وسورية، وبدء عمليات تحالف جديد لضرب جماعة الحوثيين في اليمن، ووصولاً إلى العملية العسكرية المضبوطة التي نفذّها الجيش الإيراني ضد «إسرائيل» في سابقة لم تشهدها المنطقة من قبل.

ماذا بعد رفح؟

مع وصول الاحتلال إلى معبر رفح ومحور فيلادلفيا، يمكننا القول: إن إمكانية زيادة مستوى التصعيد باتت محدودة، فمداه الجغرافي انتهى، ولم يعد في جعبة واشنطن إلا محاولة تثبيت أقدام جنود الاحتلال لأطول وقتٍ ممكن، ولكن ذلك يعني تحمّل حجم هائل من الخسائر العسكرية والاقتصادية، تمهيداً للخسائر السياسية القادمة، التي بدأت تفاعلاتها تظهر بالفعل مع تصدّع حكومة الحرب في «إسرائيل» واشتداد الانقسامات داخل الإدارة الأمريكية.
فمنذ بدء العدوان، كان من الواضح أن الآجال الزمنية لتحقيق أهدافه العميقة محدودة، ومرهونة باستجابة دول المنطقة لكل هذه التطورات، وبالرغم من الانتقادات الشعبية الكثيرة لسلوك أنظمة هذه الدول حول عزّة، إلا أن معظمها تنبّه سريعاً إلى الهدف الأمريكي، وحاولوا على هذا الأساس احتواء الصدمة بأقل الخسائر، أملاً في تأريض تيار الفوضى، وما يعنيه من تهديد لاستقرارهم الهش، وإن كان هذا التهديد لا يزال قائماً حتى اللحظة، إلا أن مؤشرات تجاوز ذروته باتت أكثر وضوحاً.

ماذا عن التوسّع شمالاً؟

بالتزامن مع هذا كله، كثر في الآونة الأخيرة الحديث عن احتمالات تسخين جبهة الكيان الشمالية، وربما البدء بعملية عسكرية كبرى ضد حزب الله في جنوب لبنان، وترافق الحديث مع تصعيد عسكري ملموس، ومع ذلك يبدو احتمال كهذا بعيداً رغم أنّه قائم، فدخول جيش الاحتلال في مواجهة مفتوحة من هذا النوع مع المقاومة اللبنانية يعني تعريض الكيان لخطر هائل، وخصوصاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الفرق الكمي والنوعي في قدرات حزب الله بالمقارنة مع فصائل المقاومة في غزّة، ما يعني أن «إسرائيل» يمكن أن تواجه هجوماً مشابهاً للهجوم الإيراني في 13 نيسان الماضي وربما أوسع، وإن كان التصدي لبضع مئات من الصواريخ والمسيرات الإيرانية، وخلال عدد محدود من الساعات احتاج استنفاراً للقوى الغربية الأبرز بما تملكه من عتاد متطور، فالحالة الثانية تعني أن واشنطن يمكن أن تقع في حفرة كانت حضرتها للآخرين، وستحتاج حينها تخصيص إمكانيات كبيرة ستكون مسألة توفيرها شاقة، وعلى حساب جبهات أخرى مشتعلة بالفعل!

إن كان الهدف «الإسرائيلي» والأمريكي المعلن هو «إنهاء حماس» والضمني هو تفجير المنطقة، فهدف الجبهة المقابلة مركباً، إذ سعت المقاومة لمنع انتصار الكيان ونجحت في توجيه ضربات موجعة، أما الدول المحيطة فعملت على احتواء الصراع في حدود مضبوطة، والحفاظ على ما تم إنجازه في مسألة استعادة وتطوير العلاقات مع إيران، وعلى هذا الأساس يمكننا القول: إن بدأت أركان «الهجوم المضاد» تكتمل، فالأيام القادمة يمكن أن تفتح الطريق أمام توسيع التفاهمات البينية بين دول المنطقة، وتدعيم روابطها مع دول الجنوب العالمي وأقطاب العالم الصاعدة من جهة، وتفتح في الوقت نفسه الباب أمام مرحلة جديدة، عنوانها إعادة صياغة حدود العلاقة مع الولايات المتحدة، مع ما يعنيه ذلك من تراجع في نفوذ الأخيرة، وفي قدراتها على توتير الأجواء الإقليمية. ولا شك أن أبرز ملامح المرحلة القادمة ترتبط بالآثار السياسية للمعركة الأخيرة داخل فلسطين نفسها، فانتصار من هذا النوع يمكن أن يعبّد الطريق أمام إعادة ترتيب للبيت الداخلي الفلسطيني، آخذين بعين الاعتبار ارتفاع أوزان القوى الوطنية في مقابل انجرار القوى الأخرى إلى المستنقع الأمريكي، ما يفرض عليها تحمّل خسائر قد تنهي الجزء الأكبر من دورها السياسي في المرحلة القادمة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1180