أمثلة ثلاث من عالمٍ مشتعل!

أمثلة ثلاث من عالمٍ مشتعل!

عندما نكون في قلب الحدث، يصبح فهم ما يجري في الأماكن الأبعد من العالم مسألة تحتاج جهداً إضافياً، ولكن إذا ما أدركنا حجم الترابط بين الساحات المشتعلة كلّها يتحول هذا الفهم إلى مسألة أساسية ينبغي إنجازها.

في الأسابيع الأولى من العدوان على غزّة، ظهرت الولايات المتحدة ممثلة برئيسها في غرفة اجتماعات وزارة الحرب الصهيونية، وظهر ممثلو واشنطن في كل المناطق الملتهبة أو المتوترة، إما بشكل مباشر وواضح، وإما عبر وكلائهم، فمن أوكرانيا إلى تايوان إلى فلسطين، وصولاً إلى إفريقيا وغيرها، هي كلّها ساحة واحدة خاضعة لاستراتيجية أمريكية مضبوطة.
«الفوضى» هي العنوان العريض، والهدف منها يقال بأشكال مختلفة كل يوم، وهو إشعال أكبر قدر ممكن من الحروب والنزاعات، بحيث تشكّل مجتمعة معادلاً لحرب عالمية لا تشتبك فيها القوى العظمى بشكل مباشر، بل ينشغل الخصوم الآخرون على الساحة الدولية بمحاولة تجنب ألسنة اللهب المشتعلة، ما يمكن أن يستنزف قدراتهم ويعيق تطورهم. وهو ما تأمل الإمبريالية الأمريكية المأزومة أن يتحول إلى وقت إضافي تكسبه لتأخير مصيرها المحتوم.

في أوكرانيا

إذا أخذنا على سبيل المثال السياسية الأمريكية والغربية في أوكرانيا أو في تايوان أو في فلسطين، لرأينا أنها تشترك بعنصر أساسي، وهو دفع التوتر إلى أقصى الدرجات والحفاظ على هذا المستوى لأطول فترة ممكنة من الزمن، ففي أوكرانيا لا يوجد أي وهم في أذهان الغرب عن وجود إمكانية لتحقيق «نصر على روسيا» وبات معتاداً سماع أرقام صادمة حول خسائر الجانب الأوكراني وتحديداً البشرية منها، إذ قالت مصادر روسية: إن كييف خسرت 15 ألف مقاتل في الأسبوع الماضي وحده! ومع ذلك تحاول واشنطن توجيه سلوك كامل الأطراف ضمن الكتلة الغربية بهدف زيادة التوتير واستفزاز الجبهة المقابلة، وتحديداً تسخير كل القدرات الضرورية لإبقاء المعركة مشتعلة.

في تايوان

لا حرب ساخنة في تايوان حتى اللحظة، لكن الاستفزازات الأمريكية المتواصلة، والتي تندرج بشكل واضح في دعم التوجهات الانفصالية للجزيرة، ذلك رغم اعتراف الولايات المتحدة نظرياً بـ «مبدأ الصين الواحدة»، أدت إلى رفع درجة التوتر حتى أصبحت المناورات العسكرية الصينية جزءاً من الحياة الروتينية في المنطقة، فكما هو الحال بالنسبة لروسيا وأوكرانيا، تعتبر جزيرة تايوان واحدة من نقاط الضعف بالنسبة للصين، فاستقلال الجزيرة وخضوعها للنفوذ الغربي يعني خسارة الصين سيطرتها على المضائق الأساسية التي تربطها مع العالم، أي يمكن لحدث من هذا النوع أن يعرض خطوط الأوكسوجين التي يحتاجها العملاق الصيني للخطر، ومن هنا كانت واشنطن تدرك أن أي استفزاز من هذا النوع في تلك النقطة الحساسة يمكن أن يولّد رد فعل، يمكن استثمارها لتسخين المشهد أكثر وربما تفجيره، ويحرص أصحاب القرار في الولايات المتحدة على سكب الزيت على النار بشكلٍ مستمر.

في فلسطين

لا مجال لتحقيق نصر عسكري أمريكي-صهيوني في حرب من هذا النوع، هذه حقيقة لم يعد بالإمكان إنكارها، ففي الأيام القليلة الماضية، تلقى جيش الاحتلال في رفح صفعة موجعة بعد أن فجّرت المقاومة الفلسطينية حقل ألغام بإحدى قوافله، ورغم أن المصادر الرسمية تحدّثت عن ثمانية قتلى، نقلت صحيفة نيويورك تايمز عن مسؤولين عسكريين «إسرائيليين» إن: «شدة انفجار ناقلة الجند جعلت التعرف على جثث الجنود أمراً صعباً» وأفادت المقاومة في هذا السياق أن الاحتلال حاول إخلاء جرحها وقتلاه من المنطقة باستخدام الطائرات المروحية، وكل ذلك يجري في مدينة رفح التي يضع جيش الاحتلال وزناً عسكرياً فيها.
الهدف الأمريكي كان منذ اللحظة الأولى رفع درجات التوتر، أملاً في خلق حالة من الاستقطاب الشديد في المنطقة، فالولايات المتحدة تدرك أن العمليات التي تقودها في البحر الأحمر لن «تقضي على الحوثيين» وأن عمليات جيش الاحتلال في غزة لن «تقضي على حماس والمقاومة» لكنها مع ذلك تثبت أقدامها في الوحل وتحاول جر الآخرين إليه.

متى يتحرك الخصوم؟

مع استمرار الحرب على غزة، لم تعد هناك أوهام أن الولايات المتحدة يمكن أن تعمل الآن على وقف الحرب، ما طرح سؤالاً عن دور خصومها على الساحة، روسيا والصين، فإذا ما أخذنا المسألة من زاوية فلسطين والمنطقة فحسب، سيبدو أن حركة الأقطاب الصاعدة بطيئة، لكنها في الواقع تتحرك على مساحة واسعة وأبعد من حدود إقليمنا، فالاستراتيجية التي نراها تعتمد على مواجهة التحديات والتهديدات على حدودهم المباشرة، وفي الوقت نفسه، يقدمون العون اللازم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً عند الضرورة في أي نقطة اشتباك أخرى على الكوكب، والأهم، أنهم يقدرون أكثر الحلقات العقد الغربي ضعفاً، ويوجهون ضرباتهم المركزة هناك. هذا لا يعني بحال من الأحوال أن دور دول المنطقة وشعوبها هو الانتظار والمراقبة بل العكس، ضمن الصورة الحالية، تظهر مهمة مركّبة، تدركها بعض دول المنطقة، فمن جهة يجري البحث عن أي إمكانية لإيقاف التوتر المتصاعد، ومن جهة ثانية يتم توجيه ضربات إلى المشروع الأمريكي حتى اللحظة الأخيرة، الإقليم اليوم يقف أمام لحظة نادرة، يُعاد أمامنا فيها تشكيل العالم الذي نعيش فيه، وإن كنا نطمح لموقع في صياغة شكل هذا العالم لن يكون من خيار آخر إلا الانخراط الفاعل بذلك!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1179