قضايا الشرق ... «الحمض النووي» للاستعمار
لم يكن مستغرباً حجم الصدمة التي تلت جريمة جيش الاحتلال الجديدة في رفح بعد أن قصف مخيماً للنازحين غربي المدينة، ما خلّف 45 شهيداً على الأقل ومئات الجرحى، الجريمة واحدة من مئات الجرائم التي ترتكب يومياً، لكنها تحمل في «حمضها النووي» ما يميزها عن غيرها، ويفرض علينا بالتالي النظر إليها من هذه الزاوية تحديداً.
استهدف جيش الاحتلال الخيام ليلاً معتمداً على خارطة أهداف يحددها واحد من برامج ذكاء صنعي يستخدمها الكيان في حربه، ويعمل هذا البرنامج بالتحديد على ضرب هدف محتمل لحظة عودته إلى «منزله» بغية إلحاق ضرر بكافة أفراد الأسرة والأقرباء المفترض وجودهم في المكان، وتسمح الخوارزمية المستخدمة للبرنامج بقتل 20 مدنياً بالإضافة إلى الهدف الأساسي!
لكن ما يثير الانتباه، أن جريمة استهداف نازحين في خيامهم ليست حدثاً فريداً في التاريخ، بل إن جرائم مشابهة نفّذها المستوطنون الأوروبيون في أمريكا الشمالية بحق السكان الأصليين، وفي شباط 1643 اشتعلت الخيام بنيران المستعمرين تماماً كما جرى في غزة، وإن كان رصد حالات مشابهة يتطلب بحثاً تاريخياً عن ممارسات الاستعمار، إلا أننا بالتأكيد أمام سلوك موروث، ورثه الصهاينة عن آبائهم من المستعمرين الأوائل.
المسألة تتعدى كونها بحثاً تاريخياً، فهي تنبهنا مجدداً إلى الارتباط العميق والجوهري بين الحركة الصهيونية والاستعمار، ومن هنا ينبغي تقديم هذه المأساة لا بوصفها عملاً وحشياً فحسب، بل بوصفها سلوكاً استعمارياً يرتبط بالسعي المحموم والإجرامي لتهجير سكان الأرض الأصليين من جهة، وكسر الروابط بين الشعب المُستعمَر وأرضه، فالمستعمِرون يأملون أن يحقق الفزع الذي يتبع جريمة كهذه حلمهم بتشتيت جموع المُستعمَرين التي كانت دائماً أصعب ما يمكن أن يواجههم.
وضع المشروع الصهيوني في فلسطين في سياقه التاريخي والسياسي كمشروع استعماري استيطاني يقدّم فهماً أعمق لفكرة المقاومة، ويخرجها من الأطر الضيقة التي يجري تقديمها، فهذا المشروع لا يستهدف أرض فلسطين، بل يستهدف كامل المنطقة، ومن هنا يظل الموقف من المشروع الصهيوني والحركة الصهيونية عموماً مسألة وجودية للفلسطينيين وغيرهم من شعوب المنطقة.
الأنظمة التي نظرت إلى «إسرائيل» من أضيق زاوية ممكنة، حيث اعتبرت أن «السياسة متغيّرة» وكذلك الموقف من «إسرائيل»! لكن التاريخ أثبت أن مشاريع الاستعمار تبقى مشاريعاً استعمارية، وكما حمل المشروع الصهيوني في «حمضه النووي» خبرة وذاكرة الاستعمار، كذلك حملت الشعوب في «حمضها النووي» كل تاريخ مقاومة هذه المشاريع، وأدركت أن كل المواقف المهادنة هي مواقف طارئة مؤقتة، وتعلم أيضاً أن تحطيم المشروع الصهيوني لم يكن يوماً مهمّة الفلسطينيين وحدهم.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1177