طُرق وعرة مغلقة وأُخرى سالكة ومُعبّدة!

طُرق وعرة مغلقة وأُخرى سالكة ومُعبّدة!

دخلنا مع بدء عملية جيش الاحتلال في رفح الفلسطينية فصلاً جديداً من الحرب، وهو ما يسمح بعرض استنتاجات جديدة، وتأكيد ثوابت قديمة ضمن الصورة العامة، ومع أننا لسنا في صدد تقييم جدوى هذا التطور عسكرياً، إلا أن توصيف ما يجري على الضفتين يبدو ممكناً، ضفة الغرب والصهيونية من جهة، والقطب الآخر في مواجهتهم، ذلك الذي تتضح ملامحه يوماً بعد آخر من جهة ثانية.

ظلَّ الإصرار «الإسرائيلي» على تنفيذ عمليةٍ في رفح حاضراً منذ مدّة، ولم يكن من الصعب استنتاج حجم مأزق الكيان الصهيوني، فالرواية الرسمية «الإسرائيلية» كانت قائمة على أن تحقيق «نصرٍ على حماس» مرهونٌ بدخول رفح، ومن هنا يمكننا القول: إن تحقيق النتائج المطلوبة من قبل الاحتلال لا يمكن إنجازها، وهو ما ينبئ بأنَّ «عملية رفح» ستكون نسخة ثانية من حرب الكيان في غزّة، أي سيكون المطلوب منها إدامة الاشتباك إلى أطول فترة ممكنة، وإطلاق المزيد من القنابل دخانية لتشويش الصورة، وربما الترويج لـ «انتصارات» زائفة تروي عطش الكيان لتحقيق أي إنجاز بعد أكثر من سبعة أشهر على بدء الحرب!

عن الموقف الأمريكي

أكدت التطورات الأخيرة مجدداً، أن الولايات المتحدة لا تريد أن تمارس ضغطاً حقيقياً على «إسرائيل» بل إن الأمر لم يتعدّ سعياً لتوجيه السلوك «الإسرائيلي» في الاتجاه المطلوب أمريكياً بدقة، فتصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن التي تحدّث فيها عن «تعليق إرسال شحنة قنابل إلى [إسرائيل]» بدت مناورة فارغة لا تملك تأثيراً فعلياً على قدرات جيش الاحتلال.
أكدت صُحف «إسرائيلية» في هذا السياق أنَّ «الحديث لا يدور حول حظرٍ شاملٍ للأسلحة على [إسرائيل]، بل هو إعلانٌ لوقف الإمداد بالذخائر الجوية، المتمثلة في الصواريخ الدقيقة الإصابة، من زنة طن وربع طن»، وأشارت هذه التقارير إلى أنَّ الحظر الذي يجري الحديث عنه لن ينفّذ «إلا في حال توسيع النشاط في رفح» ما يؤكد أن الإجراء وإن حدث يستهدف «ضبط أهداف العدوان الإسرائيلي» لا منعه!
ونقلت الصحافة «الإسرائيلية» أيضاً، أنَّ مخازن جيش الاحتلال «مليئة بسبب الإمدادات الشاملة التي وصلت طوال الأشهر الماضية» وذهبت عضو الكنيست تالي غوتليب لأبعد من ذلك، إذ صرّحت: «الولايات المتحدة تهدد بأنها لن تسلحنا بالصواريخ الدقيقة… لدي أخبار للولايات المتحدة: لدينا صواريخ غير دقيقة! لذلك ربما بدلاً من استخدام صاروخ دقيق لتدمير غرفة معينة أو مبنى معين، سنستخدم صواريخ غير دقيقة لتسوية 10 مبانٍ بالأرض…هذا ما سنفعله إذا لم تعطونا صواريخ دقيقة، سنستخدم صواريخ غير دقيقة».
من جهة ثانية، لم يكتمل احتفال الفلسطينيين المحاصرين في القطاع بعد أنباءٍ عن اقتراب الوصول إلى اتفاق الهدنة، إذ اعتبر الكيان أن «حماس وافقت على صيغة معدلة من المقترح الذي لم توافق عليه [إسرائيل] بعد» ما طوى مجدداً إمكانية الوصول لاتفاق من خلال المسار الأمريكي الذي لم يكن إلا أداة سياسية مكمّلة للعدوان، وهو ما دفع حماس لإعلان نيّتها إعادة النظر في استراتيجيتها التفاوضية، وذلك بالتشاور مع الفصائل الفلسطينية الأخرى.

عنصر المبادرة الغائب

المأزق الأمريكي - «الإسرائيلي» يتعمق، لكن وبالرغم من ذلك لا يبدو وقف الحرب ممكناً بعد، ما يعني أن هذه الكتلة وبالرغم من الصعوبات التي تواجهها لا تزال قادرة حتى اللحظة على إدامة الاشتباك، وتوتير الأجواء في المنطقة، ما يُبقي الاحتمالات الأخطر قائمة. فإن كانت الرياح الدولية تثبت يومياً أنّها تهب في صالحنا، فما الذي ينقص لتوجيه ضربة موجعة لمشروع الفوضى الأمريكي؟

إذا ما أعدنا ترتيب تسلسل الأحداث منذ اللحظة الأولى، لظهر وضوحاً أن المقاومة الفلسطينية كانت قادرة على إدارة ساحة القتال بأفضل شكلٍ ممكن ضمن إمكانياتها المتاحة، وساهمت قوى أخرى من لبنان واليمن برفع مستويات الضغط على جيش الاحتلال وداعميه، لكن واشنطن نجحت حتى اللحظة بتأريض الجزء الأكبر من طاقات الدول الأخرى في الإقليم، التي وإن أظهرت موقفاً معارضاً للسياسة الأمريكية إلا أنّها لم تقطع جسور عبور المشروع الأمريكي حتى اللحظة، إذ صرفَ «المسار العربي» جزءاً أساسياً من الوقت والجهد ضمن إطار «المبادرة الأمريكية للتهدئة» ولم يخرج عنها أو يقدّم مساراً بديلاً، في المقابل، تصدّرت قوى إقليمية أخرى كإيران المشهد، والتحمت بشكلٍ مباشر مع جيش الاحتلال، وذهبت تركيا في المقلب الآخر لتقطع علاقاتها التجارية مع الكيان وتُوقف تبادل وصل إلى 7 مليارات دولار في 2023!

كل ذلك خلق مناخاً قادراً على إعاقة المشروع الأمريكي، لكنه لم يقدم البديل بعد، ومن هنا تبدو اللحظة مناسبة لتوجيه كل الطاقات السياسية باتجاه مشاريع بديلة، وتحديداً، تلك التي تهيّئها روسيا والصين. فهناك، يجري عملٌ، حثيث دعم تشكيل طرف فلسطيني موحد قادر على تحديد الأولويات الفلسطينية والإمساك بزمام المبادرة بدلاً من الاعتماد على الوسطاء، وعلى هذا الأساس تتجه الآمال إلى إنجاز هذا الاختراق الذي من شأنه أن يعيد رسم خريطة التوازنات، ويفتح المجال أمام صياغة بدائل تخرج منها المنطقة متماسكة بخسائر يمكن تعويضها، إن كانت واشنطن عاجزة عن دفع الجميع في المسار الذي تريده، فلن يكون من الصعب فرض مسارٍ بديل ينهي احتكار واشنطن للملف الفلسطيني، ويفتت الأدوات التي استخدمت في التعطيل.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1174
آخر تعديل على الإثنين, 20 أيار 2024 12:54