خلافات واشنطن والكيان حقيقية لكنها ليست حول استهداف المدنيين!
كيف يمكن فهم الانتقادات الأمريكية الأخيرة التي وجهها بايدن وإدارته إلى الكيان الصهيوني؟ الإجابة عن سؤال كهذا تبدو مهمة شائكة بلا شك، لكنها خطوة أساسية في فهم استراتيجية واشنطن وتكتيكها في اللحظة الراهنة، وخصوصاً مع استمرار العدوان الصهيوني على غزة، منذ أكثر من شهرين مع تأكيد أمريكي لإمكانية استمراره لأشهر قادمة.
تظّل العلاقات بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة تحت دائرة الضوء، وخصوصاً مع التطورات الأخيرة التي تعيشها المنطقة، تحت وقع العدوان الصهيوني المستمر والمتصاعد على قطاع غزّة، إذ شكّلت هذه العلاقة الثنائية مفتاحاً لفهم دور «إسرائيل». وظلّ واضحاً، أن الكيان لن يكون قادراً على تغطية احتياجات بقائه الضرورية دون دعم متواصل من واشنطن، ولذلك تلقى الانتقادات الأمريكية الأخيرة للكيان الصهيوني اهتماماً كبيراً، فهل يمكن القول: إن هناك «صحوة أمريكية متأخرة» فعلاً؟ أم أن الخلافات الظاهرة اليوم مناورة مقصود منها التغطية على الموقف الأمريكي الفعلي الداعم للكيان؟ أو تُرد إلى أسباب أخرى تماماً؟
عن أي انتقادات يجري الحديث؟
وجّه الرئيس الأمريكي جو بايدن مجموعة من الانتقادات للكيان، تمحورت حول بضعة نقاط أساسية، أولها: أن «إسرائيل بدأت تخسر الدعم الدولي بقصفها العشوائي لغزة، الذي أودى بحياة آلاف المدنيين الفلسطينيين» وأشار بايدن أيضاً إلى أن نتنياهو بات بحاجة إلى «تقوية وتغيير حكومته»، بهدف «إيجاد حل طويل الأمد للصراع الإسرائيلي الفلسطيني» حسب ادعائه. وانتقد المواقف التي تخرج من الحكومة الحالية، التي ترفض علناً حل الدولتين الذي تبنته واشنطن شكلياً منذ إقراره، وما أثار الكثير من الانتباه في تصريحات الرئيس الأمريكي هو قوله: إن «موقف إسرائيل صعب» وأن «سلامة الشعب اليهودي على المحك حرفياً» مؤكداً وجود خلافات «مع بعض القيادات الإسرائيلية».
ونظراً لكون حديث بايدن موجّه إلى نتنياهو بشكل خاص، بدا كما لو أن مشكلة واشنطن مع الكيان حالياً ترتبط بوجود نتنياهو في رئاسة حكومة تتألف من عناصر شديدة التطرف، في الوقت الذي يبدو هذا الاستنتاج متسرعاً وبعيداً عن الفهم العميق لطبيعة العلاقة بين الولايات المتحدة والكيان.
«إسرائيل التي تريدها واشنطن»
في تصريح معروف لجو بايدن يوم كان عضوًا في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي عام 1986 قال فيه رداً على منتقدي تقديم الدعم للكيان داخل الولايات المتحدة: «لو لم يكن هناك إسرائيل لكان علينا اختراعها» وغالباً ما يُقدّم التصريح مجتزأً بهذا الشكل، فيما يغيب النصف الآخر والأكثر جوهرية فيه وهو: «…لنضمن الحفاظ على مصالحنا»، فكلمات بايدن الشاب في حينها لم تكن تعكس موقفه الشخصي فحسب، بل عكست موقف جزء كبير وأساسي من النخبة الأمريكية، التي رعت العلاقة بين الولايات المتحدة والكيان، وقدّمت له دعماً سياسياً وعسكرياً ومالياً كبيراً، على أن يكون ذراعها المتقدمة في المنطقة، والتي أوكلت له مهمة حراسة مصالحها هناك، وما قصده الرئيس الأمريكي في تصريحاته الأخيرة، والتي أبدى فيها قلقه على «سلامة الشعب اليهودي وإسرائيل» يرتبط بشكل وثيق بهذه المسألة، أي مصالح الولايات المتحدة الأمريكية.
فإذا أردنا إيجاز القضايا الخلافية بين الإدارة الأمريكية والحكومة الصهيونية الحالية، يمكننا الاستناد إلى تصريحات نتنياهو، التي تحدث فيها عن جوانب محددة وملموسة من هذا الخلاف، إذ عبّر أن حكومته لم تتفق بعد مع الإدارة الأمريكية حول «مستقبل غزة» بعد هزيمة مفترضة لحماس، وأكد رفضه للخيار الذي تمثل في تولي السلطة الفلسطينية المسؤولية في غزة بعد الحرب، فيما يبدو أنه اقتراح أمريكي، واعتبر رئيس الوزراء، أن الحل مرهون بفرض «اسرائيل» لما أسماه بالـ «السيطرة الأمنية المطلقة في القطاع» إذ انتقد السلطة الفلسطينية في الضفة، وقال: «إن كانت حماس تريد تدمير إسرائيل في الوقت الحاضر، فالسلطة الفلسطينية تسعى لذلك على مراحل» مؤكداً: أنه «لن يسمح لإسرائيل بتكرار خطأ أوسلو» التي قامت السلطة الفلسطينية على أساسها.
في هذه الأجواء كان مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، وفي ختام زيارته للكيان الجمعة 15 كانون الأول، قال: إن «الإدارة الأمريكية لا تروج لفكرة إعادة احتلال غزة من قبل إسرائيل، بل تؤكد على ضرورة نقل الحكم في النهاية إلى الفلسطينيين. وستظل كيفية ذلك، والجدول الزمني للنقل، موضوعاً للنقاش مع الجانب الإسرائيلي».
مصالح أمريكا أولاً
الخلافات بين أمريكا و»إسرائيل» ليست ظاهرة جديدة بل بدأت في السنوات الماضية تطفو جملة من الخلافات على السطح، كان آخرها قبل حرب غزة، وحول «التعديلات القضائية» التي ظهرت في الإعلام، كما لو أن واشنطن قلقة على «ديموقراطية إسرائيل» بينما كان الخلاف في الواقع بسبب تحفظات واشنطن ورفضها لتوجهات محددة ومتنامية داخل الكيان، تميل للعمل بشكل أكثر استقلالية وخارج البنى السياسية التقليدية، ما يعطي صلاحيات واسعة للسلطة القائمة للمضي قدماً في الكثير من المسائل، مع ضمان عدم تقييد حركتها عبر أركان السلطة الأخرى، «مثل الكنيست والمحكمة العليا» التي كانت واشنطن- على ما يبدو- تعتمد عليها سابقاً في التحكم بالقرار السياسي داخل الكيان. أما «التعديلات القضائية» التي تبناها نتنياهو بصفته ممثل وواجهة أساسية لهذا التيار، كانت بمثابة رد فعل طبيعي من داخل الكيان على تغيير واضح في أولوية واشنطن في المنطقة، وهو الذي استشعر من خلاله الكيان- وهو محقٌ في ذلك- خطراً وجودياً كبيراً، ما دفع بعض قواه السياسية لمحاولة العمل وفق هذه المتغيرات الجديدة، وبدأوا بتحضير الأساس السياسي والقانوني لمرحلة كهذه لم يستطيعوا حتى اللحظة فرضها في ظل صراع سياسي داخلي شرس.
تحاول واشنطن إدارة المرحلة الحالية بشكل دقيق ومضبوط، وتكون «إسرائيل» حاضرة بلا شك، لكن كجزء من صورة شاملة، وتحديداً بوصفها وكيلاً لمصالح الولايات المتحدة لا كياناً مستقلاً لأجل ذاته، لذلك ترى الولايات المتحدة، وتصر على التحكم في المعركة الحالية على أساس إدامة الاشتباك في حدود مضبوطة، أو حسب وصف جون كيربي منسق السياسات الإستراتيجية في مجلس الأمن القومي، على أساس «عمليات أقل كثافة» بهدف منع تحول الصراع الحالي إلى مواجهة إقليمية شاملة، إذ يمكن أن تؤدي معركة من هذا النوع في ظل الظرف الراهن، وفضلاً عن احتمال تورط واشطن بشكل مباشر فيها، إلى كسر نهائي وحاسم لكل الآمال الأمريكية في تغذية الصراعات والخلافات البينية بين دول المنطقة، تحديداً، الدول العربية وإيران، التي يمكن أن تصبح في جبهة واحدة نظرياً في معركة من هذا النوع، فالمهمة الموكلة للكيان الصهيوني من قبل واشنطن هو أن يكون صاعق تفجير في منطقة أوسع وأشمل من الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولذلك ترى واشنطن أن سلوك الكيان في الأراضي المحتلة يجب أن يراعي مصالحها بشكل أساسي، أملاً في قلب المعادلة في الاتجاه المعاكس، لذلك ينبغي على «إسرائيل» وأي حكومة قائمة فيها، أن تعلن شكلياً قبولها بالقرارات الدولية، وتحافظ على ما ترى الإدارة الأمريكية فيه منجزاً قابلاً للبناء عليه، مثل: «السلطة الفلسطينية» التي كانت تعمل كشرطي تحت وصاية الكيان، إذ ترى واشنطن أن بقاء الوضع على حاله وتجميده إلى أطول فترة ممكنة من شأنه الحفاظ على اتفاقيات التطبيع التي جمعت الدول العربية مع الكيان من جهة، ويُبقي الولايات المتحدة في موقع يسمح لها بتقديم نفسها كوسيط، لتحافظ من خلال هذا الدور على إمكانية إعاقة أي حل ممكن، وتبقي في الوقت ذاته الوضع المتوتر في المنطقة، تمهيداً لتفجير دول أخرى كمصر أو السعودية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1153