مرحلة جديدة: موسكو تلغي تصديقها على «حظر التجارب النووية»
يكمن الملف النووي في صلب التطورات والتصعيدات الجارية دولياً، من إعادة تموضع الأسلحة النووية لمختلف الدول إلى الانسحاب من الاتفاقات النووية الدولية مروراً بالتجارب أو الاتفاقات النووية الثنائية أو الجماعية في إطار التهديد أو المواجهة، وعبر ذلك كله زيادة المخاطر المحتملة لهذه المسألة وسط التوترات الحاصلة في العالم.. وفي هذا السياق كان الحدث الأخير هو سحب روسيا تصديقها على «معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية» رسمياً يوم الخميس الماضي 2 تشرين الثاني فما معاني وأهداف هذه الخطوة وما خلفياتها؟
وُقعت معاهدة حظر تجارب الأسلحة النووية في عام 1996 بعد تبني الجمعية العامة للأمم المتحدة لها، وصدّق عليها البرلمان الروسي عام 2000، وكان الغرض منها أن تصبح قانوناً دولياً يوقف كافة أنواع التجارب النووية في العالم، إلا أن 8 دول من أصل 44 تمتلك أسلحة نووية أو إمكانية تصنيعها، لم تقم بالتصديق على المعاهدة، مما عرقل دخولها حيز التنفيذ طيلة عقدين من الزمن حتى الآن، وعدم دخولها حيز التنفيذ عنى عملياً عدم إلزام الدول المصدقة عليها بها كذلك الأمر.
على الرغم من ذلك، سعت روسيا ودول أخرى للمحافظة على مصادقتهم الخاصة كل على حدة، محاولين حث بقية الأطراف طيلة هذه المدة على القيام بالمثل لدخول المعاهدة حيز التنفيذ، علماً أنها معاهدة واحدة من العديد غيرها التي تهدف بمجموعها إلى خفض المخاطر النووية، أو حتى نزع السلاح النووي دولياً، من مثل: معاهدات الحد من انتشار الأسلحة الاستراتيجية، أو الحد من الأسلحة متوسطة وبعيدة المدى، وستارت 1 وستارت 2، وأخيراً نيو ستارت.
مع بروز وتصاعد التوترات الدولية خلال العقد الأخير، تم وقف العمل بالعديد من هذه المعاهدات سواء بقرار مباشر، مثل: الانسحاب من معاهدة الحد من انتشار الأسلحة متوسطة وبعيدة المدى بعد مخالفات أمريكية عدّة لها، أو لعدم الاتفاق على تمديدها كحال معاهدة ستارت 2.
منذ بدء الحرب في أوكرانيا، زادت حدة التهديدات الاستراتيجية والنووية على روسيا، سواء بإعادة تموضع القوات ذات القدرة النووية لحلف الناتو، أو الولايات المتحدة بالقرب من روسيا، أو زيادة وتيرة التجارب النووية على النطاق الدولي، أو إنشاء تحالفات واتفاقات نووية جديدة كـ أوكوس بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة وأستراليا، وغيرها من الأمور والعوامل التي تفرض على روسيا إجراءات جوابية وخطوات ردع جديدة للقيام بها.
من الخطوات الروسية كان وقف العمل بمعاهدة الحد من الأسلحة المتوسطة وبعيدة المدى، وبعدها انتهاء العمل باتفاقية ستارت 2، ثم تغيير العقيدة العسكرية الروسية، وتحديداً منها ما يتعلق باستخدام موسكو للأسلحة النووية، والتي بإمكان اختصار معناها من جواب الرئيس فلاديمير بوتين في منتدى فالداي الدولي خلال الشهر السابق، بأن هناك «سببان لاحتمال استخدام روسيا للأسلحة النووية. الأول: هو استخدامها ضدنا، أي رداً على ذلك، فيما يسمى بالضربة المضادة [...] السبب الثاني لاستخدام هذه الأسلحة: هو التهديد الوجودي للدولة الروسية، حتى لو تم استخدام الأسلحة التقليدية ضد روسيا، ولكن وجود روسيا كدولة معرض للخطر».
التطورات التي سبقت سحب التصديق، وتجارب نووية متبادلة
بنفس اليوم الذي أوضح فيه الرئيس الروسي شروط استخدام روسيا للأسلحة النووية، 6 تشرين الأول، صرح رئيس مجلس الدوما فياتشيسلاف فولودين: أن رئاسة المجلس ستبحث في اجتماعها المقبل إلغاء التصديق على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، وأن ذلك بمثابة رد فعل يطابق تصرف الولايات المتحدة التي لم تصادق عليها، إثر ذلك وفي اليوم نفسه قال نائب المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة فرحان حق: إن الأمين العام أنطونيو غوتيريش يدعو كافة القوى النووية إلى التصديق على المعاهدة، قائلاً: «نحث جميع الدول التي لم تصدق على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية على القيام بذلك دون تحفظات، أو شروط مسبقة، وخاصة أولئك الذين يلزم تصديقهم على المعاهدة دخولها حيز التنفيذ» بيد أن هذا الدعوات جاءت متأخرة وبلحظة غير ممكنة.
ورداً على ذلك، اعتبر المتحدث باسم الخارجية الأمريكية أن «مثل هذا التحرك من قبل أي دولة مشاركة يعرض للخطر- دون داع- المعايير العالمية التي تحظر تجارب التفجير النووية»، بينما قال السفير الروسي في واشنطن أناتولي أنطونوف: إن «هذا ظهور دوري آخر لسياسة واشنطن المبنية على مبدأ– ما يمكن للولايات المتحدة، ممنوع على الدول الأخرى» متابعاً «لأكثر من 25 عاماً، عطلت واشنطن دخول المعاهدة حيز التنفيذ من خلال رفض التصديق عليها. وبينما تعلن شفهياً التزامها بوقف تجارب التفجيرات النووية، تواصل الإدارة الأمريكية الحفاظ على البنية التحتية النووية العسكرية، بما في ذلك موقع التجارب في نيفادا، قيد الاستعداد للعمل».
إلى ذلك، لم تقم موسكو بعد بسحب تصديقها على المعاهدة رسمياً رغم اعتماد مجلس الدوما مشروع إلغاء التصديق في 18 تشرين الأول، ولتعلن وزارة الطاقة الأمريكية في 20 تشرين الأول أن الولايات المتحدة نفذت اختبارات لتفجيرات كيميائية في حقل تجارب نووية بولاية نيفادا، وعلّق النائب الأول لممثل روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة دميتري بوليانسكي «إذا أجروا بالفعل تجارب نووية، فهذا يعني أنها خطوة نحو التصعيد من جانبهم».
جواباً على ذلك، أجرت قوات الردع الاستراتيجي النووية الروسية البحرية والبرية والجوية، تدريبات على استخدام الأسلحة النووية الثلاث في 25 تشرين الأول وبإشراف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مباشرة، وأعلن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو: أن هذه القوات تدربت خلال المناورات على توجيه ضربة نووية كاسحة رداً على ضربة نووية معادية مفترضة، وأعلن بعدها المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف، أن «التدريبات فعالة وقد تم تحقيق جميع الأهداف خلالها» وأن الرئاسة راضية عن النتائج.
لتخطو الولايات المتحدة تصعيداً جديداً في اليوم التالي، فيعلن البنتاغون أن واشنطن تعتزم صناعة نوع جديد من القنابل النووية ذات السقوط الحر، ووفقاً لادّعاء «فوكس نيوز» فإن هذه الأسلحة ستكون أقوى 24 مرة من القنبلة النووية التي أسقطت على اليابان أواخر الحرب العالمية الثانية.
وصولاً لتوقيع بوتين رسمياً على قانون إلغاء المصادقة على معاهدة الحظر الشامل على التجارب النووية في 2 تشرين الثاني.
غايات الانسحاب والمخاطر النووية القائمة
إنّ هذه التطورات فيما يتعلق بالأسلحة النووية والمعاهدات المتعلقة بها تحمل وجهان في آن واحد، فعلى الرغم من أن هذه التصعيدات التي تفرضها واشنطن تحمل مخاطر جدية كبرى بنشوب حرب نووية، سواء بشكل واع أو غير مدروس بلحظة ما، إلا أنّ هذه الإجراءات الروسية تمثل ردعاً جاداً للغربيين عن استخدام السلاح النووي تجاه موسكو وأمنها القومي عموماً، وتبعث رسائل بهذا المضمون، فالانسحاب من المعاهدة التي لم تدخل حيز التنفيذ يوماً أساساً تعني رداً سياسياً بالدرجة الأولى على واشنطن، وتعني أيضاً، أن الظرف السياسي في تسعينيات القرن الماضي لم يكن يسمح لروسيا بالمناورة، وقدّمت الكثير من التنازلات بلا مقابل جدي من واشنطن، أما اليوم فالظرف اختلف تماماً، ويمكن أن إلغاء المصادقة يفتح الباب لمفاوضات جديدة تصل إلى اتفاقات جديدة تلزم الولايات المتحدة قبل غيرها كونها الدولة الوحيدة التي استخدمت السلاح النووي.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1147