«طوفان الأقصى» يبدد كل الأوهام البالية

«طوفان الأقصى» يبدد كل الأوهام البالية

لم تتوقف لليوم الثاني على التوالي أنباء المعارك والمواجهات المشرفة القادمة من قطاع غزة، وكامل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبعد مرور ساعات على إعلان كتائب عز الدين القسام عن إطلاق عملية عسكرية نوعية، لا تزال «إسرائيل» تعيش حالة من التخبط والارتباك، يتجاوز إلى حدٍ بعيد ذلك الذي اختبره الكيان في حرب تشرين/ أكتوبر 1973.

ليس من المبالغة القول: إن الساعات القليلة الماضية حملت معها أحداثاً لم تكن متوقعة داخل أو خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتحوّلت هذه الأحداث حتى قبل أن تنتهي إلى مفصل تاريخي، يجب الوقوف عنده طويلاً قبل الخروج بالاستنتاجات الضرورية. فبينما ترى أجهزة الاستخبارات الصهيونية والأمريكية أن ما يجري يؤكد فشلاً استخباراتياً كبيراً، أثبت «طوفان الأقصى» أن أصحاب القضية الفلسطينية وكل المدافعين عنها، يملكون اليوم دليلاً دامغاً على أن «طبخات البحص» تلك التي اشتهرت أنظمة المنطقة في تسويقها لم تعد مقبولة، وأن استراتيجية استعادة الحقوق ينبغي أن تلائم ميزاناً دولياً جديداً، مالت فيه الكفة بعكس مصالح الكيان وكل داعميه. ويفرض الواقع الجديد ملاحقة العدو وتوجيه الضربات المستمرة له، بدلاً من الاحتفاظ بخطط وخرائط حِقَب الماضي.

ملخص ما جرى

أعلنت كتائب عز الدين القسام، الذراع العسكري لحركة حماس، في فجر يوم السبت 7 تشرين الأول عن عملية «طوفان الأقصى»، التي وصفها رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو، بأنها «عملية غير مسبوقة» فكتائب القسام بالتعاون مع فصائل أخرى للمقاومة في القطاع، غيّرت تكتيكها نوعياً، فمع آلاف الصواريخ التي تم إطلاقها منذ لحظة البداية باتجاه النقاط العسكرية الحيوية والمستوطنات، انطلق مقاتلو المقاومة الفلسطينية في أضخم عملية اقتحام لمحيط القطاع، نجحوا خلالهاً بكسر خط الدفاع الذي اعتمد عليه الكيان بحصار غزة، وتوغّل رجال المقاومة في كل الاتجاهات المحيطة. ونجحوا في فتح أكثر من 20 جبهة نشطة اشتبكوا فيها مع جيش الاحتلال، الذي فشل- وللمرة الثانية في تاريخه- في تنظيم صفوفه بالسرعة المطلوبة تماماً، كما حدث يوم أعلنت سورية ومصر الحرب على الكيان من جبهتين في 6 تشرين الأول قبل عقود، فقوات الاحتلال التي لم تتوقع هجوماً من داخل القطاع، وجدت نفسها تشتبك بشكل مباشر مع مقاتلين فلسطينيين في سبع مستوطنات محيطة بالقطاع، بالإضافة إلى نقاط عسكرية حساسة منها مقر قيادة فرقة غزة في قاعدة رعيم.

استجابة الكيان المرتبكة

ما أن بدأت المواجهات، حتى أعلن وزير الحرب الصهيوني يوآف غالانت حالة الطوارئ في نطاق 80 كيلومتراً من قطاع غزة، ووافق في الوقت ذاته على استدعاء قوات الاحتياط، ومن جانبه، أعلن رئيس الوزراء عن اجتماعٍ أول لمجلس الوزراء المصغر للشؤون السياسية والأمنية، الذي انتهى دون إعلان خطوات ملموسة، ليعلن جيش الاحتلال بعدها عن عملية «السيف الحديدي» ضد القطاع، ولم تستبعد التصريحات نوايا الكيان تنفيذ عملية برية واسعة في غزة. لكن الاجتماعات الكثيرة والتصريحات والتهديد، لم تكن كافية في تبديد حالة الهلع التي انتشرت داخل «المجتمع الإسرائيلي» ومهما كانت الاتجاهات التي ستتطور فيها الأحداث في الأيام المقبلة، لن يكون بالإمكان محو أو تخفيف آثارها الكبرى على الكيان وكل مشروعه الاستيطاني. ومع مرور ساعات كان نتنياهو أعلن هدفه القديم/ الجديد، وقال: إن «المجلس الأمني المصغر وافق على تدمير القدرات العسكرية لحماس والجهاد» وبدأت قوات الاحتلال فعلياً بتوجيه ضربات موجعة داخل القطاع، استهدفت فيها مناطق مدنية ونقاطاً يتوقع أن تكون نقاطاً عسكرية لحركات المقاومة، وفي الوقت نفسه، بدأ جيش الاحتلال في يوم 8 تشرين الأول، بتنظيم عمليات إخلاء سريعة للمستوطنين المستقرين في «طوق غزة» فيمَا يبدو تمهيداً لمعارك طاحنة ستشهدها تلك المناطق، وفي السياق ذاته، أكد نتنياهو: أن «الجيش سيخوض في الأيام الجسيمة القادمة حرباً طويلة».

1143-17

النتائج الأولية

نفّذت المقاومة الفلسطينية هجومها بأساليب نوعية، فلم تكتف هذه المرة بإطلاق الصواريخ التي كانت حاضرة أيضاً واستهدفت مدن الكيان، بل نجحت باختراقات في البر والبحر بالإضافة إلى إنزال جوي باستخدام الطيران الشراعي، واستخدمت الطائرات المسيرة واستهدفت قطعاً عسكرية، ما شكّل مجتمعاً أسلوباً جديداً بالمطلق، ضَمِنَ نجاح العملية من ساعاتها الأولى، فالمقاتلون الفلسطينيون خاضوا معارك سيطروا فيها بشكل كامل على ثلاث مستوطنات، إلى جانب الاشتباكات في عدة مستوطنات أخرى، وفي الوقت الذي اعترفت «إسرائيل» رسمياً- حتى لحظة كتابة هذه المقال- بأكثر من 500 قتيل حسب وزارة الصحة، وصلت تقديرات وسائل الإعلام إلى حوالي 600 قتيل، أما عن الأسرى والمفقودين فتصل الأرقام إلى أكثر من 700 أسير أو مفقود، بينما تشير وقائع الأحداث أن الأعداد أكبر بكثير من ذلك، ولن يكون هناك إمكانية لتقديم أعداد دقيقة للخسائر البشرية أو العسكرية في الوقت الحالي، وخصوصاً أن كثيراً من النقاط لا تزال تحت سيطرة المقاومة الفلسطينية.

المحاولات الصهيونية المفهومة لمحاولة تضليل الرأي العام، وتقليل حجم الخسائر، لم تكن كافيةً للتستر على اختراقات كبرى نجحت المقاومة في تنفيذها وتوثيقها، مثل: إعلان رئيس المكتب السياسي في حركة حماس عن أسر قائد المنطقة الجنوبية في جيش الاحتلال الجنرال نمرود ألوني، ونشر صور مهينة له في ثيابه الداخلية في أثناء اقتياده من قبل مقاتلي المقاومة، هذا بالإضافة إلى تأكيد مقتل كلاً من المقدم يوناتان شتاينبرغ قائد لواء ناحال، أحد ألوية النخبة في الجيش الاحتلال، والرائد أور يوسف من وحدة المستعربين، وقائد كتيبة الاتصالات، وغيرهم العشرات من الضباط. في ظل تأكيد المقاومة على أن معظم ضباط قيادة المنطقة الجنوبية في «إسرائيل» وقعوا في الأسر.

الاحتمالات قائمة.. ولكن!

صادق المجلس الوزاري المصغر «الكابينت» رسمياً على قرار حالة الحرب، ليعلن نتنياهو بذلك متجاوزاً الحكومة حالة الحرب أول مرة منذ خمسين عاماً، ووجه رئيس الوزراء في رسالة مصورة إلى «مواطني إسرائيل» حسب تعبيره، ليقول: «نحن في حرب ولسنا في عملية أو جولات، ولكن في حرب» وفي سياق متصل قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن: إن ما تتعرض له «إسرائيل»: «هو الأسوأ منذ عام 1973». ما يؤكد مجدداً، أن الضربة التي يتلقاها الكيان حتى اللحظة غير مسبوقة، وستكون خسائرها البشرية والعسكرية أقل من أن تذكر إذا ما قارنها بالخسائر السياسية، فالحكومة الحالية ستكون مضطرة للتعامل مع نتائج محسومة مسبقاً، حتى قبل بدء «الحرب» التي يتحدثون عنها، فما حققته المقاومة الفلسطينية حتى اللحظة لا يمكن محوه حتى وإن حاول الكيان الدخول برياً إلى قطاع غزة، فالرد العنيف الذي تنفذه الماكينة العسكرية للاحتلال لن يغير من واقع الأمر شيئاً، وخصوصاً أن أي تصعيد للجيش الصهيوني في القطاع سيقابل في تصعيد في مناطق أخرى من الأراضي المحتلة، ولا يستبعد أن يتطور الأمر ليتحول إلى مواجهة شاملة على الجبهة الشمالية التي شهدت بالفعل حتى اللحظة عدة حوادث.

في السنوات الماضية، كانت أزمة الكيان تتفاقم، وبالرغم من أن قادته أنفسهم يرون أنهم أمام أزمة وجودية حقيقية، تهدد بقاء الكيان أصلاً، لم يكن ذلك كافياً بالنسبة لكل الأنظمة في المنطقة، التي ظّلت تتعامل مع المسألة ضمن إحداثيات قديمة بشكل مقصود، لكن ما جرى حتى اللحظة في الأراضي المحتلة سيكون نقطة تحول حقيقية بمجرى الأحداث، فالكيان يعلن اليوم أنه أمام حرب طويلة مع فصائل المقاومة في الداخل، ونعلم مسبقاً أن ضريبة الفشل الأمني والعسكري الذي حدث حتى اللحظة، ستكون قاسية على الحكومة الحالية، التي ربما لن تستطيع الثَّبات أمام الضغوط الحالية، وتسقط على وقع «طوفان الاقصى» والانقسامات الداخلية في داخل الائتلاف الحكومي من جهة، وبينه وبين المعارضة من جهة أخرى، ما سيدخل الكيان في مستوى جديد من الأزمة. كل ذلك يعني وضوحاً: أن الاستراتيجية الوحيدة النافعة ستكون توجيه الضربات المتتالية، وعلى كل الجبهات الممكنة، فهذا هو الطريق الوحيد الذي يمكن من خلاله انتزاع حل حقيقي وعادل للقضية الفلسطينية، دون انتظار آمال أخرى. الأيام القادمة ورغم كل البطش الذي يمكن أن يتعرض له الفلسطينيون ستكون كفيلة لتثبت لنا أننا على أعتاب حقبة جديدة، تمحو كل الخيبات التي عشناها سابقاً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1143
آخر تعديل على الخميس, 19 تشرين1/أكتوير 2023 16:50