صدامات بين مستوطنين في «يوم الغفران» تغذي النار المشتعلة
مواجهات وتصاعد في حدّة الخلافات الداخلية يشهدها الكيان مجدداً، فرغم «إنجازات» تبجّحت حكومة نتنياهو بتحقيقها، ظلّ الخلاف قائماً مع المعارضة، وبعد حديث رئيس الحكومة عن لقاءات كثيرة عقدها في الخارج، غابت النتائج الملموسة، ومع كل الضجة الإعلامية في الأسابيع الماضية حول اقتراب «صفقة» مزعومة مع السعودية، عادت الأنباء المتضاربة تهيمن على المشهد، وتشكك في قدرة نتنياهو على إحراز تقدّم في أيٍّ من الملفات العالقة.
اللقاء الذي جمع رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، دفع البعض للقول: إن الطرفين نجحا بتقريب وجهات النظر، وتحديداً بعد الإعلان الرسمي الأمريكي عن إعفاء «الإسرائيليين» من التأشيرة، كما لو أن هذا القرار الثانوي دليلٌ كافٍ على انتهاء الخلافات القائمة! في الواقع يبدو أن كلاً من الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء «الإسرائيلي» كانت له أسبابٌ خاصة لعقد اللقاء، لكن متابعة ما خرج عنه تؤكد أنه لا يمكن الحديث بعد عن اتفاقات، لا في ملف التعديلات القضائية، ولا حول موقف الحكومة الرسمي من قضية حل الدولتين، وغيرها من المسائل التي تُقدّم إلى الإعلام بوصفها أسباباً للخلاف. وربما تكون الأخبار الكثيرة القادمة من داخل الكيان مكرورة لا جديد فيها، وهذا بالضبط ما يزيد المشهد تعقيداً هناك، إذ بات اعتيادياً أن تُتَداول أخبار مظاهرات لم تتوقف منذ 39 أسبوعاُ، أو أن تظهر على الملأ خلافات حادة بين كتل سياسية متقابلة، بل خلافات داخل تلك التكتلات نفسها، ولم يعد مستغرباً أن يخرج مسؤولون رفيعو المستوى للتحذير من «مستقبلٍ أسود» قادم لا محالة. هذا إلى جانب اضطراب وانقسامات ملموسة داخل مؤسسات جيش الاحتلال. لكن وفي الوقت نفسه، تكرار هذه الأخبار لا يعني بأن الوضع على حاله، بل العكس تماماً، فالانقسام يتعمق إلى تلك الدرجة التي أمسى فيها كل حدث أو مناسبة فرصة لاشتباك جديدٍ بين الخصوم.
موسم الأعياد يعزز الانقسام
يترافق موسم الأعياد اليهودية في كلّ سنة مع تشديدات أمنية داخل الكيان، وتضييق على الفلسطينيين، وحركتهم، ويفرض الاحتلال أيضاً الإغلاق القسري على المحلات التجارية في محيط الأقصى، إذ أغلقت قواته أكثر من 2000 متجر في يوم الغفران هذا العام، بالإضافة إلى اقتحامات قسرية للمسجد الأقصى نفذها مئات المستوطنون. الأعياد التي تبدأ بعيد السنة العبرية في منتصف أيلول، وينتهي آخرها في 7 و8 من شهر تشرين الأول الجاري، كانت دائماً فرصة لاستفزازات من قبل المستوطنين، لكن الجديد والواضح في هذه السنة، أن الانقسامات السياسية داخل الكيان كانت حاضرة بشدّة، ويجري استحضارها في أي مناسبة. إذ شهدت الصلاة في يوم الغفران صدامات ومشاجرات بين المستوطنين، فكانت بلدية تل أبيب رفضت دعوات للفصل بين النساء والرجال أثناء الصلاة في الساحات العامة، ومُنعت هذه الخطوة بدعم من المحكمة، إلا أن منظمة «رأس يهودي» الدينية المتشددة حاولت مخالفة القرار، والفصل بين الجنسين في الصلاة، ما سبب سلسلة من المواجهات بين أنصارهم وأولئك الذين يريدون الصلاة أن تكون مختلطة، لكن الحدث لم يتوقف هنا، إذ سرعان ما اعتبر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أن «أنصار اليسار هاجموا اليهود في دولة اليهود وفي يوم الغفران» وأضاف، أن ذلك فوّت فرصة جديدة لتجاوز الانقسام حسب تعبيره، لكن المعارضة كان لها رأيٌ آخرٌ تماماً، فقال رئيسها يائير لبيد في ردّه على بيان رئيس الوزراء: إن من رفض السلوك المتطرف «ليسوا ضد اليهودية، بل يحاولون إنقاذها من جماعات عنصرية ومتطرفة تحصل على هدايا من قبل الحكومة». وعلى هذا الأساس قرر إيتمار بن غفير وزير الأمن القومي الصهيوني، تنظيم صلاة في نفس المكان متحدياً المنع في خطوة رفعت درجات التوتر إلى مستويات قياسية، قبل أن يلغي دعوته هذه على أساس تراجع من أسماهم «قادة اليسار المتطرف» وتغييرهم أماكن تجمعهم. هذه المناكفات دفعت عضو الكنيست غدعون ساعر، من كتلة غانتس، لوصف أقوال نتنياهو ولبيد على السواء بأنها «بشعة»، واتهمهما بأن «كل واحد منهما يحاول إضافة وقود إلى الموقدة بدلاً من إطفائها» وقال مستنكراً: «أي (زعماء) هؤلاء الذين يغذون حرباً أهلية في نهاية يوم الغفران؟».
دعوات لاستخلاص العبر
موسم الأعياد هذا ترافقه ذكرى حرب تشرين/أكتوبر في 1973، المعروفة داخل الكيان باسم حرب «يوم الغفران»، والتي وجد فيها الرئيس إسحاق هرتسوغ فرصة مناسبة لتحذيرٍ جديد، إذ تحدث في المراسم الرسمية للذكرى الـ 50 لهذه الحرب، منبّهاً لخطورة أحداث تل أبيب، وقال متسائلاً: «كيف وصلنا إلى هذا الوضع الرهيب؟ أن يقف الأشقاء، بعد مرور خمسين عاماً على الحرب المريرة، على جانبي المتراس؟ أولئك الذين يصبون الزيت على هذه النار يشكلون تهديداً حقيقياً للوحدة الإسرائيلية. هذا يجب أن يتوقف الآن. إن الانقسام والاستقطاب والنزاع الذي لا ينتهي– يشكل خطراً حقيقياً على المجتمع الإسرائيلي وأمن دولة إسرائيل» وأضاف «في هذا الوقت خصوصاً علينا أن نستخلص العبر، وأن ندرك جيداً أن التهديد الإسرائيلي الداخلي هو التهديد الأشد والأخطر من جميع المخاطر». ورغم أن هرتسوغ تمسّك بهذا الخطاب التحذيري منذ مدة، وحاول تقريب وجهات النظر في عددٍ من المسائل، إلا أن مساعيه لم تعطِ أي نتيجة حقيقية ملموسة، فالانقسام قائم ولا يمكن إنكاره، لكن السؤال الأكبر المطروح يرتبط بالأسباب العميقة لهذا الانقسام، فلم يعد مستغرباً أن تفرد الوسائل الإعلامية مقالات تحليلة مطولة، لنقاش هذه المسألة، لكن النتائج التي تصل إليها معظم هذه المحاولات، تكتفي بسطح الظاهرة، فإما أن تصوّر المسألة بوصفها صراع على «الديمقراطية» و«فصل السلطات» وإما يرى البعض فيها تجدداً لصراع قديم بين «جماعات دينية متطرفة» وأخرى «علمانية»، ويذهب هؤلاء في تعقّب جذور هذا الخلاف إلى اللحظات الأولى في تأسيس الكيان. لكن وجود خلافات حول قضايا سياسية، مثل: دور القضاء وصلاحيات السلطات، أو خلاف حول أي مسألة أخرى لا يمكن أن يكون كافياً لفهم جوهر الخلاف العنيف لهذا المستوى، فالمثال الأخير والأكثر تداولاً يشير إلى أن المشكلة في مكانٍ آخر، فحكومة نتنياهو تحاول فعلياً تقليص قدرة القضاء على التدخل في صلاحيات الحكومة، لأنها تدرك أن هناك في «جهاز الدولة» توجّه آخر مخالف، يمكن أن يعيق أي خطوة في المستقبل، ولهذا يسعى نتنياهو إلى إزالة عقبات يدرك أنها ستواجهه قريباً، ما يؤكد أن الصراع حول القضاء هو معركة استباقية لمعركة أخرى تلوح في الأفق، وإن كانت تلك «المعركة» مجهولة حتى اللحظة، فهذا لا يبرر بحال من الأحوال حصر الخلاف بهذه القضايا الجزئية. ما نعرفه أن الخلاف جوهري ومصيري، فإصرار التيارات المتصارعة الذهاب في الصدام إلى أقصى حد ممكن، رغم نتائجه على الكيان نفسه، يؤكد مجدداً أن القوى السياسية في الكيان تدرك أن «إسرائيل» تواجه خطراً وجودياً حقيقياً، ولذلك تخوض الأطراف المتصارعة معركة بقاء حقيقية ستكون كل الأدوات أسلحة محتملة فيها كالقضاء والدين … إلخ
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1142