انتهت «جمهورية آرتساخ» والقوقاز أمام اختبار صعب!
في تطور تاريخي، أعلن رئيس جمهورية آرتساخ المعلنة من جانب واحد وغير المعترف بها، حلّ الجمهورية ومؤسساتها من مطلع 2024، وذلك نتيجة لعملية عسكرية أطلقتها وزارة الدفاع في أذربيجان في 19 أيلول الماضي، الحدث يفتح الباب واسعاً لنقاش مآلات الوضع في القوقاز، وتحديداً على أرمينيا التي خرجت بخسارة كبيرة كانت نتيجة متوقعة لسنوات من السياسات الخاطئة.
العملية العسكرية
قالت وزارة الدفاع الأذربيجانية في بيانها يوم بدء العملية: «من أجل ضمان احترام ما نص عليه الاتفاق الثلاثي (موسكو- باكو- يريفان)، والتصدي للاستفزازات واسعة النطاق في المنطقة الاقتصادية بقرة باغ، ونزع سلاح القوات المسلحة الأرمينية وانسحابها من أراضينا، وتحييد بنيتها التحتية العسكرية، وضمان سلامة المدنيين ... كذلك العسكريين، فضلا عن استعادة النظام الدستوري لجمهورية أذربيجان، تم إطلاق عملية محدودة لمكافحة الإرهاب في المنطقة»، واشترط الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف لوقف العملية العسكرية خلال اتصال هاتفي مع وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، أن تسلم القوات الأرمنية أسلحتها في قره باغ.
لم تقابل العملية العسكرية الأذربيجانية بصد عسكري حقيقي من القوات الأرمنية، خاصة بعد اعتراف يريفان بسلطة باكو على قره باغ، كما أدت العملية العسكرية إلى ردود فعل شعبية داخل أرمينيا، حيث احتشد المتظاهرون منذ اليوم الأول احتجاجاً على الوضع في الإقليم، وسرعان ما تطورت خلال الأيام التالية- وحتى الآن- إلى مطالبات بحل الحكومة، وإقالة رئيس الوزراء الأرمني نيكول باشينيان.
بعد تنفيذ العملية العسكرية قال مساعد الرئيس الأذري حكمت حاجييف: «تم الاتفاق على حوالي 70% من القضايا المتعلقة بمسودة اتفاق السلام بين أرمينيا وأذربيجان، وكان من المفترض أن تكون عملية متبادلة، وللأسف حالت الحروب الهجينة المنتشرة والاتجاهات السلبية دون إجراء مفاوضات مكثفة منتظمة بين الجانبين [...] لا تزال هذه المسألة مدرجة في جدول أعمال أذربيجان، ولا تزال أذربيجان تؤيد اتفاق السلام الذي سيغير جنوب القوقاز بالمعنى الإيجابي» ثم في 27 أيلول قال الرئيس الأذربيجاني: «الموقف الذي أبدته يريفان أمس واليوم يبعث على الأمل في أنه لن يكون بعيداً اليوم الذي ستقوم فيه أذربيجان وأرمينيا بتسوية القضايا القائمة بيننا، وستوقعان على اتفاقية السلام، وستبدأ الدول الثلاث في منطقة ما وراء القوقاز بالتعاون في الإطار الثلاثي».
السلوك الأرميني المحابي للغرب
بعد تنفيذ أذربيجان لعمليتها، سارعت يريفان لتحشيد المجتمع الدولي ومن خلفه الغربيين، حيث دعت الأمم المتحدة لإرسال بعثة دولية إلى إقليم قره باغ، وقال وزير الخارجية الأرمني أرارات ميرزويان: «على المجتمع الدولي بذل قصارى جهده لنشر بعثة مشتركة من وكالات الأمم المتحدة على الفور في قره باغ، لمراقبة وتقييم حقوق الإنسان، والوضع الإنساني والأمني على الأرض» متهماً باكو بارتكابها جرائم «تطهير عرقي»، في المقابل، أعلن وزير الخارجية الأذربيجاني جيهون بيراموف «أريد أن أؤكد مجدداً أن أذربيجان مصممة على إعادة دمج السكان الأرمن في منطقة قره باغ في أذربيجان بصفتهم مواطنين متساوين»، مضيفا، أن «الدستور والتشريعات الوطنية لأذربيجان والالتزامات الدولية التي تعهدنا بها تشكل أساساً متينا لهذا الهدف» وتابع «ما زلنا نعتقد أن هناك فرصة تاريخية لأذربيجان وأرمينيا لإقامة علاقات حسن جوار والتعايش جنباً إلى جنب في سلام».
إلا أن حديث ميرزويان كان يتناغم مع المواقف الأمريكية، حيث صرح وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن: أن بلاده تشعر بقلق عميق حيال السكان من العرق الأرمني في إقليم قره باغ، مما شكل أرضية «إنسانية» لتدخلات غربية أوسع في الملف، ليعلن المتحدث باسم الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر في 25 أيلول، أن واشنطن بدأت تعمل بالفعل على إنشاء بعثة دولية لمراقبة التزامات أذربيجان بضمان حقوق سكان قره باغ الأرمنيين، ودعمت الخارجية الألمانية هذا الأمر، حيث أعلنت وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك تأييدها فكرة نشر مراقبين دوليين في الإقليم. وأعلن البرلمان الأوروبي عزمه مناقشة الوضع في إقليم قره باع خلال جلسته العامة في 3 تشرين الأول، والذي من المقرر أن يصدر عنه قرار بإدانة باكو.
متابعةً للتناغم الأرمني الأمريكي، صرح رئيس الوزراء نيكول باشينيان «الهجمات التي شنتها أذربيجان على أرمينيا في السنوات الأخيرة تسمح لنا بالتوصل إلى نتيجة واضحة، تفيد بأن الهياكل الأمنية الخارجية التي نشارك فيها غير فعالة من وجهة نظر مصالح الدولة، ومن وجهة نظر أمن أرمينيا»، ويعني تلك الهياكل التي تتواجد بها روسيا، أو تمتلك نفوذاً بها، وتحديداً منها منظمة الأمن الجماعي، أو الاتفاقات الثلاثية.
وتقدّم هذا التناغم الأرمني الأمريكي مع إعلان البرلمان الأرميني إدراجه مسألة التصديق على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على جدول أعماله.
الردود الروسية
أعلنت موسكو، أن يريفان تخطئ بتدميرها للعلاقات الروسية الأرمينية، وأن الحكومة الأرمينية تقوم برهن البلاد خدمة لألعاب جيوسياسية غربية في المنطقة، وقالت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا: «تقنع واشنطن وبروكسل القيادة الأرمنية بالانسحاب من منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وتسريع التعاون مع الناتو، وإعادة توجيه برنامج التعاون العسكري الفني، وتوقيع معاهدة سلام مع أذربيجان دون الأخذ في الاعتبار مراعاة حقوق وأمن السكان الأرمن في قره باغ ».
وصرح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الأربعاء الماضي: «إذا اعتمدوا على الولايات المتحدة، كما يتضح من تصريحات العديد من ممثلي القيادة الأرمنية، فربما من الأفضل أن ينظروا إلى التاريخ الحديث، وكيف تعاملت الولايات المتحدة مع أولئك الذين سعوا للانطواء تحت جناحها. مصير كل هؤلاء الأشخاص لا يحسدون عليه على الإطلاق [...] من المستحيل تاريخياً وجغرافياً وجيوسياسياً خسارة روسيا بمعنى التجاهل التام لمصالحها في جنوب القوقاز. ولكن بعض القادة في يريفان لديهم مثل هذه الآمال، ويتحدثون عن هذا بشكل مباشر».
وتعليقاً على مقترح أرمينيا للاتفاق مع روسيا حول الخلاف بشأن اعتراف يريفان بالمحكمة الجنائية الدولية قال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف: «تعلم أرمينيا جيدا أننا لسنا من المشاركين في نظام روما الأساسي، وتدرك جيداً أنه من الصعب استيعاب القرار المتخذ على أساس هذا النظام الأساسي. نحن نعلم تماماً أن سلطات أرمينيا تعرف ذلك بالمطلق» وحذّرت الخارجية الروسية يريفان بوضوح من هذه الخطوة لما لها من عواقب سلبية على العلاقات بين البلدين.
التطورات الأخيرة يمكن أن تفتح الباب على حالة من عدم الاستقرار في القوقاز، ما يشكل تهديداً جدياً للدول المحيطة، ويحمّلُ شعوب تلك المنطقة ضريبة الفوضى، فما جرى حتى اللحظة يمكن استثماره غربياً وتحديداً من قبل واشنطن، التي ترى لها مصلحة في خلق حالة عدم استقرار في القوقاز. ويبدو هذا واضحاً من محاولات التدخل تحت يافطات مختلفة كـ «الوساطة» و«بعثات المراقبين». والمشكلة الأكبر تبدو داخل أرمينيا، فسلوك القيادة الحالية بدا أنه يعمل بالضد من مصالح بلاده، على كافة الأصعدة، بدءاً بسلوكها في قره باغ الذي وصل إلى النتيجة الراهنة وإعلان يرفان هزيمتها، وصولاً إلى العمل الممنهج لتحطيم العلاقة مع روسيا وتفريغها من أي مضمون جدّي، لا بل توريط البلاد بسلوك معادٍ لحليف تاريخي، ما يمكن أن يزيد من تعقيد الأوضاع داخلياً، ويحمّل البلاد وقيادتها ثمناً باهظاً لهذه الأخطاء السياسية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1142