إحراق القرآن و«إعادة الإقلاع الكبرى»

إحراق القرآن و«إعادة الإقلاع الكبرى»

الظاهرة التي تتكرر أكثر من مرة، تكف عن كونها مصادفة، ويصبح من الضروري البحث عن القانون الذي يحكمها. هذا ما يقوله المنطق وهذا ما يقوله المنهج العلمي في دراسة الظواهر، سواء كانت طبيعية أو اجتماعية.

للمرة الثانية خلال أقل من شهرين، قام شاب مهاجر من أصول عراقية، يوم الاثنين 31/7، بإحراق نسخة من القرآن الكريم أمام البرلمان في العاصمة السويدية استوكهولم وتحت حماية الشرطة السويدية.
في السويد أيضاً، وخلال الأعوام الثلاثة الماضية ابتداءً من 2020، قام متطرف سويدي اسمه راسمون بالودان بإحراق القرآن عدة مرات أمام الكاميرات.

هذان المثالان ليسا الوحيدين. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يوم 22 تشرين الأول 2020، صرح بما يلي: «المسلمون قد يشكّلون مجتمعاً موازياً داخل فرنسا. لا أودّ أن يكون هناك أيّ التباس أو خلط للأمور، لكن لا بدّ لنا من الإقرار بوجود نزعة إسلامية راديكالية تقود إلى إنكار الجمهورية. الإسلام نفسه يُواجه أزمة في جميع أنحاء العالم. الحظر على الحجاب سيشمل من الآن فصاعداً جميع مقدّمي الخدمات العامة في فرنسا».
في فرنسا نفسها هنالك المجلة الساخرة الشهيرة شارلي إيبدو والتي نشرت أكثر من مرة رسوماً كاريكاتورية مسيئة للنبي محمد وللإسلام.

بالعودة إلى القضية الأحدث، فقد تبنى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة قراراً قدمته منظمة التعاون الإسلامي التي تضم 57 دولة، ويدعو القرار المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة إلى نشر تقرير عن الكراهية الدينية إلى الدول، لمراجعة قوانينها وسد الثغرات التي قد تعرقل المنع، ومقاضاة الأفعال والدعوة إلى الكراهية الدينية. ورغم أنّ القرار قد مر بالتصويت، إلا أنه لا ينبغي أن نهمل واقعة أنّ كلاً من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي قد صوتا ضد القرار وعارضاه بشدة بذريعة أنه يتعارض مع «حقوق الإنسان وحرية التعبير».

هذه الوقائع جميعها وغيرها، تشير إلى أنّ لدى النخب الحاكمة الغربية، وعلى المستوى الرسمي وغير الرسمي، سياسة محددة تسمح وتشجع ظواهر من نمط حرق القرآن.

قبل المضي أبعد في تحليل الظاهرة وفهمها، لا بد من إزاحة الذريعة الشكلية التي تقولها الدول الغربية حول وقوفها إلى جانب «حقوق الإنسان» و«حرية التعبير»؛ فهذا الوقوف هو انتقائي إلى أبعد الحدود، على سبيل المثال فإنّ الغرب الذي يتساهل مع ظواهر مثل حرق القرآن والإساءة للنبي محمد، يقف موقفاً حازماً بل وديكتاتورياً وقمعياً مما يسميه «معاداة السامية» وكذلك من «الدفاع عن حقوق LGBT -المثليين-».

وإذاً، ما هو القانون الذي يحكم هذه الظاهرة؟ أو بعبارة أخرى، ما هي مصلحة النخب الغربية في تشجيع وتسهيل هذه الظاهرة؟

تتلخص المسألة في ثلاث نقاط:

أولاً: عاشت الشعوب الغربية خلال أكثر من 50 عاماً مضت، قدراً من الرفاه النسبي. أحد الأسباب الأساسية لهذا كان سيادة الاستعمار الاقتصادي-التبادل اللا متكافئ، وباستخدام الدولار ومنظومته المالية، وفي إطار التنافس مع النموذج السوفييتي في حينه. منذ تبني السياسة النيوليبرالية مطلع الثمانينات في بريطانيا والولايات المتحدة ثم في كل الدول الغربية، بدأت عملية سحب المكتسبات الاجتماعية. تسارعت هذه العملية مع الصعود الصيني الروسي الذي بدأ بوضع نقطة النهاية لحقبة الاستعمار الاقتصادي. وبالتالي فإنّ عودة الشعوب الغربية إلى النشاط السياسي ذي التوجه الاقتصادي الواضح هو أمر لا مفر منه من وجهة نظر النخب الغربية. أفضل وسيلة لتشتيت نضالات الشعوب هو أن تدخل في دوامات من العنف والكراهية تجاه بعضها البعض على مستوى الدول وضمن الدول نفسها. وفي الدول الغربية فإنّ إحداث انقسام حاد بين «المهاجرين» و«الأصليين» هو أداة مهمة تحاول النخب استخدامها لحماية نفسها ولتحويل طاقة الغضب لدى الناس ضد بعضها البعض. ضمن هذه الإحداثيات يصبح مفهوماً لماذا يتم تعزيز النزعات المتطرفة في الغرب، سواء منها النازية الجديدة أو الإسلامية المتطرفة، لأنّ كلاً منهما يتطلب الآخر ويخدمه. وبهذا المعنى فإنّ تشجيع الحكومات الغربية لسياسات الكراهية هو عملية استباقية غرضها إجهاض بحث الشعوب الغربية عن حقوقها في وجه النخب الحاكمة التي تتمركز بيدها السلطة والثروة بشكل غير مسبوق، وبشكل هو الأشد ديكتاتورية عبر التاريخ.

ثانياً: حاجة الغرب إلى استدعاء التطرف وتشجيعه لا تقتصر على حدود بلدانه، بل تتعداه إلى كل دول العالم. على سبيل المثال فإنّ الشعوب الإفريقية وعدداً كبيراً من الحكومات والقادة الأفارقة، يظهرون خلال السنوات الماضية ميلاً واضحاً نحو الاستقلال عن التبعية للغرب، ويعملون على بناء علاقات محترمة ومتكافئة مع الصين وروسيا وبقية دول العالم الصاعدة. لإعاقة هذا التوجه يجري استخدام التطرف والحركات الإرهابية لتكون سيفاً مرفوعاً على أعناق كل من يحاولون الاستقلال عن الغرب... وسياسات الكراهية، وخاصة الدينية، هي أداة مهمة في تحريض التطرف وتوسيعه.

ثالثاً: في الإطار الأوسع والأكثر إستراتيجية، فإنّ محاولات النخب الغربية لتأبيد هيمنتها على الكوكب تتطلب استكمال المخطط النيوليبرالي الذي عبر عنه أفضل تعبير كلاوس شفاب رئيس منتدى دافوس في كتابه «إعادة الإقلاع الكبرى- The Great Reset». تأبيد السيطرة يتطلب تدمير أجهزة الدولة في كل العالم، سواء بجزئها المدني عبر إنهاء أي دور اجتماعي للدولة، أو بجزئها العسكري عبر النزاعات المسلحة وعبر خصخصة القطاع الأمني وتحويله إلى ميليشيات من المرتزقة. ولكن استكمال هذه العملية لا يمكن أن يتم دون تدمير النواة الثقافية للمجتمعات التي تحتل التقاليد والأديان موقعاً أساسياً ضمنها... وصولاً إلى تدمير مؤسسة العائلة، والذي يجري العمل عليه بعدة أساليب بينها محاولات فرض سياسات «LGBT» على دول العالم المختلفة، وذلك بغرض تذرير المجتمعات وإنهاء أي إمكانية لديها لمقاومة جمعية للسياسات الغربية.

بالمحصلة، فإنّ تصوير الإساءة إلى الأديان ورموزها، على أنها أمرٌ «تقدمي» و«تحرري»، هي في الحقيقة على العكس من ذلك تماماً؛ فالمقصود منها هو تحفيز وتعميق التطرف بكل أنواعه، وخاصة منه الفاشي والإرهابي. وكذلك فإنّ المقصود هو ضرب الشعوب ببعضها البعض، في الغرب (عبر ضرب المهاجرين بالأصليين)، وفي بقية دول العالم عبر ضرب الطوائف والأديان والشعوب ببعضها البعض... وفوق ذلك كلّه، فإنّ هذه الإساءات لا تهدف إلى تحرير المجتمعات من «معتقدات قديمة» بل تهدف في الحقيقة إلى تدمير البنية الثقافية للمجتمعات في كل أنحاء العالم، وضمناً تدمير مؤسسة العائلة، ووصولاً إلى حالة من الفردية المطلقة حيث تتحول البشرية بأسرها إلى أفراد منعزلين غير قادرين على تكوين أي نشاط جماعي منظم ضد نخب النهب العالمية والمحلية...

(English version)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1134
آخر تعديل على الأحد, 13 آب/أغسطس 2023 19:45