انقلاب النيجر… هل يعمّق المأزق الغربي؟
تبدو الاحتمالات مفتوحة بعد الانقلاب الذي نفذته مجموعة قادة للحرس الرئاسي في النيجر، خاصة مع إعلان مجموعة من القوى الدولية والإقليمية عن مواقف متباينة، وبالرغم من أن الحركة في العاصمة نيامي شهدت عودة تدريجية يوم السبت 5 آب إلا أن الترقب يسيطر على الأجواء، وتحديداً بعد ارتفاع عدد من الأصوات التي تهدد باللجوء إلى القوة لإعادة الرئيس المحتجز إلى الحكم.
الاهتمام الكبير الذي تتلقاه النيجر يظهر إلى حدٍ بعيد حجم الحدث الجاري، ففي الوقت الذي يستغرب البعض من التغطية المكثفة لتطورات البلد الإفريقي، يبدو وضوحاً أن ما يجري سيكون بمثابة تطور نوعي جديد في إفريقيا، وسيكون له ارتدادات مؤثرة ستتجاوز النطاق الإقليمي.
ماذا جرى؟
في يوم 26 تموز الماضي خرج رئيس وحدة الحرس الرئاسي الجنرال عبد الرحمن تشياني يرافقه عدد من الضباط، ليعلنوا عن انقلاب في السلطة وإزاحة الرئيس محمد بازوم عن الحكم مع عدد من رجال الدولة والحكومة. وهي خطوة جذبت الكثير من ردود الفعل، كان أبرزها وأكثرها سخطاً تلك القادمة من فرنسا والولايات المتحدة. لكن الساعات التي تلت الحدث، حملت معها مستوىً مرتفعاً من التصعيد، إذ بدأت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا المعروفة باسم «إيكواس» بالتدخل وفرضت حزمة من العقوبات، وأعطت مهلة للانقلابيين حتى يوم الأحد 6 آب للتراجع عن هذه الخطوة قبل أن تلجأ إلى اتخاذ إجراءات جوابية ولم يستبعد الخيار العسكري، إذ نقلت وكالات الأنباء عن عبد الفتاح موسى مفوض الشؤون السياسية والسلام والأمن في دول «إيكواس» قوله، إن قادة الأركان بدول المجموعة وضعوا خطة لتدخل عسكري محتمل في حال لم ينفذ الانقلابيون المطلوب منهم في المهلة المحددة. لكن بالرغم من أن «إيكواس» تدخلت عبر قواتها المشتركة في عدد من دول غرب إفريقيا- وهو ما سنتوقف عنده لاحقاً- إلا أن الصورة اليوم تبدو أكثر تعقيداً من أي وقتٍ مضى. ففي البداية لا تتطابق مواقف الدول الأعضاء في «إيكواس» حول ما يجري في النيجر، بل تتناقض بشكلٍ واضح، فقد أعلنت دول مثل مالي وبوركينا فاسو أن أي تدخل عسكري ضد النيجر سيكون بمثابة إعلان حرب ضدها، ما يعني أن جيوش هذه الدول قد تتدخل بشكل مباشر لصالح الانقلابيين إذا ما تم تدخل عسكري ضد النيجر. ورفضت غينيا العقوبات المفروضة على النيجر وأعلنت عدم التزامها بها، هذا إلى جانب دول أخرى في الإقليم أعلنت رفضها اللجوء إلى القوة في حل المشكلة، وهذا ما تبنته الجزائر التي ستكون من أكبر المتضررين إذا ما اتجهت الأوضاع إلى مزيدٍ من التوتر.
حول الدور الفرنسي والأمريكي
ظلّت فرنسا حاضرة وبقوة في معظم مستعمراتها السابقة، وخلقت في هذه المستعمرات كل المقومات اللازمة لاستمرار عمليات النهب عبر تثبيت أنظمة تابعة لها، وعمل شركاتها في استخراج ثروات إفريقيا وفرض شرائها بأسعار زهيدة، هذا إلى جانب سيطرتها على جزء كبير من احتياطيات هذه الدول من العملات الصعبة، اضطرت فرنسا لتقاسم نفوذها مع الولايات المتحدة التي تصاعد وزنها بشكل كبير بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. النفوذ الغربي والهيمنة على موارد وثروات هذه الدول كان عاملاً أساسياً في إفقار شعوبها، وظلت ميزانيات هذه الدول تعاني عجزاً كبيراً، فتعتمد النيجر مثلاً على المساعدات الخارجية في 40% من ميزانيتها.
هذا الظرف المجحف بالنسبة لإفريقيا كان «ميزة» كبرى بالنسبة لدول مثل فرنسا والولايات المتحدة، التي استطاعت حجز موقع استعماري لها في القارة الغنية وتمتعت بنفوذ عسكري وسياسي كبير، لكن الدول في إفريقيا بدأت تبحث عن شكل مختلف من العلاقات الخارجية والتجارية، وأصبح هذا ممكناً مع تنامي الوزن الصيني الاقتصادي، وعزم روسيا استعادة علاقاتها السياسية المتينة بدول مفتاحية في إفريقيا بعد أن عانت هذه العلاقات فتوراً وتراجعاً عقب انهيار الاتحاد السوفيتي وتراجع الدور الروسي بعده.
ماذا يعني الانقلاب؟
لا شك أن فرنسا تعتمد على النيجر اقتصادياً وتحديداً كونها رابع منتج عالمي لليورانيوم، وتعتمد محطات الطاقة النووية الفرنسية على لـ 35% من إجمالي احتياجاتها من هذا الخام، والمؤكد أن فرنسا تسيطر على أهم مناجم اليورانيوم هناك، وتنفرد شركاتها بالحفر والاستخراج، ما يعني أنها تسيطر على إنتاج كبير من هذا الخام، وهي صاحبة الحق بمنح التراخيص لدول أخرى للاستثمار في هذه الحقول. من جانب آخر، تعتمد فرنسا على النيجر التي وقّعت معها سابقاً اتفاقيات أمنية وعسكرية تنشر فرنسا بموجبها 1500 جندي وأعلن الانقلابيون عدم اعترافهم بهذه الاتفاقيات ما يجعل الوجود الفرنسي هناك غير شرعي بنظر الحكام الحاليين، والوضع مشابه بالنسبة للولايات المتحدة التي أسست في 2014 قاعدة للطائرات المسيرة في وسط الصحراء في مدينة أغاديز شمالي النيجر وتعد هذه القاعدة عنصر إستراتيجياً مهماً بالنسبة للقوات الأمريكية المنتشرة في القارة.
لكن جانب آخر من المسألة له أبعاد أخرى يمكن من خلالها تفسير القلق الغربي، فهذا سابع انقلاب عسكري تشهده منطقة وسط وغرب إفريقيا في أقل من ثلاثة أعوام وتشترك معظم هذه الانقلابات بأنها أطاحت بوجوه اعتمدت عليها فرنسا والولايات المتحدة في تثبيت نفوذهم هناك، وعلى إثر ذلك يخسر الغرب نفوذه الإستراتيجي في منطقة الساحل الإفريقي وصولاً إلى دول غرب القارة، وكانت النيجر من الخيارات البديلة بالنسبة لفرنسا بعد طرد قواتها وتوتر علاقاتها في كل من مالي وبوركينا فاسو على إثر الانقلابات العسكرية التي حصلت هناك، وهو ما يجعل خسارة النيجر أكبر من مجرد قاعدة عسكرية أو مكاسب اقتصادية، بل يمكن أن تتحول إلى هزيمة إستراتيجية في منطقة حساسة وسيكون لخسارتها دور حاسم في توجيه ضربة نهائية للتواجد الغربي هناك.
ملاحظات أولية حول «إيكواس»
بعيداً عن تاريخ تأسيس المجموعة وتطورها، يمكننا القول، إنها كانت خاضعة للنفوذ الغربي بشكلٍ واضح، فإلى جانب دورها في تنظيم التجارة والتعاون بين دول غرب إفريقيا أدّت كذلك دوراً سياسياً وعسكرياً لصالح الغرب تحت شعارات مثل «حفظ السلام» وغيرها، وشملت قائمة التدخلات التي حدثت تحت مظلة إيكواس كلاً من ساحل العاج وليبيريا في 2003 وغينيا بيساو في 2012، ومالي في 2013 وغامبيا في 2017. وهذا ما يجعل من خيار اللجوء إلى القوة خياراً مطروحاً، نظراً لتاريخ المنظمة، لكن ما ينبغي أخذه بعين الاعتبار هو أن قدرة الغرب على دفع الأمور في هذا الاتجاه أصبحت أقل، ونرى أنه يتلقى الضربات في مواقع مختلفة، هذا لا يعني أنه لن يكون هناك تدخل عسكري ضد الانقلابيين في النيجر، لكن المؤشرات الحالية تؤكد حساسية الموقف بالنسبة للغرب، لكنها تؤكد في الوقت نفسه أنّ القوى التي يجري تحضيرها للدخول في هذه المواجهة لا تبدو قادرة على أداء المهمة، وتنسحب من الواجهة بالتدريج، ما يقلص فرص فرنسا والولايات المتحدة بإشعال حربٍ بالوكالة.
تستند القوى السياسية الجديدة التي تتسيّد المشهد على المشاعر السلبية لدى الشعوب الإفريقية اتجاه الغرب، لا يعني ذلك أنها صاحبة مشاريع تنموية وتحررية جدية، لكنها تعبّر في هذه اللحظة عن إمكانية ظهور هذه القوى في إفريقيا وإمكانية المضي في خطوات جدية باتجاه استقلال حقيقيّ بعيداً عن هيمنة الدولار أو اليورو، باتجاه كسر كل أشكال التبعية التي ظلّت سارية حتى بعد أن نالت هذه الدول استقلالها الشكلي، هذا بالضبط يعني نصراً إستراتيجياً لإفريقيا قادراً على تغيير مستقبلها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1134