السودان واليمن وآليات قياس الوزن الأمريكي

السودان واليمن وآليات قياس الوزن الأمريكي

بالرغم من التحركات الملحوظة التي بدأ يشهدها الملف اليمني، إلا أنّ المؤشرات على اقتراب الحل لا تزال متناقضة، بل تبدو بعيدة جداً عند النظر إلى درجة التعقيدات الكبرى التي تراكمت هناك، وتكاد الصورة تبدو متشابهة في بعض تفاصيلها على الشط المقابل للبحر الأحمر، وتحديداً في السودان الذي لا تزال المعارك الملتهبة تتصاعد فيه دون بوادر تهدئة مستدامة.

ذِكرُ القواسم المشتركة بين الملفين اليمني والسوداني مسألة ليست باليسيرة، لكن يظهر أمامنا اليوم، أن السعودية والولايات المتحدة يظهران كأصحاب أدوار مؤثرة في كلا الملفين، ما يفتح لنا مجالاً لتقييم أدوار البلدين في هذه المساحة الجغرافية الواحدة، ويسمح لنا أيضاً أن نطرح سؤالاً: هل يمكن التوفيق بين المصالح الأمريكية والسعودية في ملفات كهذه؟

نقطة البداية

بالرغم من تزايد الدلائل على التراجع الأمريكي، والارتفاع الملحوظ في درجة تسارعه، يظل البعض غير متيقنين من أن هذا الأمر بات حقيقة ملموسة، ما يجعل فهمهم لمعظم التغيرات الجارية قاصراً. وفي ذات الوقت، لا تبدو المشكلة أقل شأناً لدى البعض الآخر، أي أولئك المدركين أن التراجع حاصل بالفعل، لكنهم يظنون أنه بات بالإمكان إهمال وزن الولايات المتحدة عند أية محاولة لفهم تطور الأحداث. فالواقع اليوم، يبرهن أن التراجع الأمريكي حاصل فعلاً ويمكن ذكر آلاف الاعترافات الغربية والأمريكية التي تقر بهذا التراجع، لكن الوزن الأمريكي لا يزال قادراً على التأثير المتباين في عدد كبير من الملفات. ويمكننا القول: إن كل أزمة جديدة تنفجر أو يجري تأجيجها، تتحول تلقائياً لتكون اختباراً جديداً لقياس الوزن الأمريكي في تلك اللحظة بالذات، وفي تلك النقطة بالتحديد، وبالتالي، يتيح لنا القياس المتكرر لحجم التأثير الأمريكي في ملفٍ بعينه إمكانية فهم التبدلات الجارية ضمنه. المشكلة الكبرى تكمن في تعميم الاختراقات الأمريكية المحدودة والمؤقتة في هذا الملف أو ذاك، وتقديمها كدلائل لنقض «فرضية التراجع» أصلاً. حتى اللحظة خسرت الولايات المتحدة النزال على عدد من الجبهات، ولم يعد يخفى على أحد أن «دول الجنوب» استطاعت تحقيق فارق تاريخي هو الأول من نوعه منذ قرون مضت، وتجاوزت الكتلة الغربية من حيث الناتج الإجمالي، في ميدان آخر مشتق من الأول، نجحت دول بارزة، مثل: روسيا والصين بتثبيت تفوق عسكري نوعي لا يزل الحديث عنه قاصراً، وذلك بالرغم من أن الصواريخ الفرط صوتية باتت تدك مخازن الأسلحة، وغرف قيادة العمليات في أوكرانيا، لتترك ترسانة الأسلحة الغربية وكل تقنيات الاستطلاع المتقدمة عاجزة عن صدها أو التعامل معها. الحديث في الميادين الأخرى لا يقل أهمية، فدول الجنوب باتت أكثر قدرة على تفكيك الأدوات التاريخية التي استخدمها الغرب لفرض الهيمنة والنهب، ونشهد اليوم تحطيم الدولار والتبادل اللامتكافئ وتكبيل المؤسسات المالية الغربية وإيجاد بدائل عنها، بالإضافة إلى تغيرات كبرى أخرى تشهدها سلاسل التوريد وطرق النقل والبحث العلمي وغيرها. فإذا ما أردنا حساب «معدل التراجع الأمريكي» لا يمكن بحال من الأحوال النظر إلى ملفات، مثل: اليمن والسودان بمعزل عن كل ساحات المواجهة الأخرى، وفي الوقت نفسه لا يجوز إنكار أن واشنطن قادرة حتى اللحظة على التأثير المؤقت وتحديداً في ملفات أمنية- عسكرية، نظراً لأنها خلقت عدداً كبيراً من البنى والهياكل القادرة على العمل ذاتياً بما يخدم المصلحة الأمريكية، والتي تتطلب «إعادة برمجة» لتؤدي دوراً مختلفاً.

في اليمن

منذ انفجار الأزمة اليمنية وبدأ التدخل العسكري الخارجي فيه، ظهر الصراع بوصفه سعودياً إيرانياً، وجرى إغفال الدور الأمريكي الذي كان واضحاً ومباشراً منذ البداية، لكن غاب في الظل لفترة طويلة، على هذا الأساس كان التوافق السعودي- الإيراني الذي حصل مؤخراً برعاية صينية قادراً على حل أجزاء مهمة من المشكلة، لكنه سيكون مضطراً للتعامل مع الدور الأمريكي في هذا الملف. فالخلافات بين طهران والرياض لا تزال قائمة ولا يمكن الحديث عن أنها طويت وتم تجاوزها، لكن فهم جوهر التقارب بين البلدين يسمح لنا بالقول: إن النيّة في الوصول إلى توافقات نيّة حقيقية وجادة لدى الطرفين، بل هي ضرورة على مستوى الأمن الوطني في السعودية وفي إيران. ما يثير الانتباه، أن التطورات الأخيرة في اليمن بدأت تعطي مؤشرات إيجابية سريعة بعد أن تم الإعلان عن عودة العلاقات بين طهران والرياض، لكنها تتعثر اليوم، فهل يرد هذا إلى الخلافات بين طرفي المصالحة؟ أو أن النشاط الأمريكي المتزايد بدأ يفعل فعله لإعاقة إنضاج أولى ثمرات التوافق بين القوى الإقليمية في المنطقة؟
بحسب ما جرى تداوله مؤخراً، يجري السفير الأمريكي سلسلة من الخطوات النشطة، إذ أجرى مباحثات مع مسؤولين حكوميين في عدن، وأعلنت السفارة الأمريكية لدى اليمن إنّ: «السفير ستيفن فاجن ناقش مع وزير الدفاع اليمني، محسن الداعري، سبل تقوية الشراكة الأمنية الثنائية»، وجرى هذا اللقاء بحضور الملحق العسكري الأمريكي مارك وايتمان، وبحسب بيان السفارة، فإن فاجن أثنى على «الجهود التي يبذلها الجيش اليمني لمكافحة تهريب المواد غير المشروعة ذات المنشأ الإيراني إلى ‎اليمن». وعقد السفير لقاءً آخر مع عمدة العاصمة اليمنية المؤقتة أحمد لملس، بحضور مساعد المدير العام للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، ما يشير إلى أن الوكالة ستؤدي أدواراً محددة خلال الفترة اللاحقة.
تصاعد الحضور الأمريكي المباشر في اليمن يمكن تفسيره على أنه تعبير عن قلق في واشنطن من الدور السعودي الحالي، الذي بات يرى ضرورة إنهاء الصراع اليمني، والوصول إلى توافق مستدام قادر على نزع فتيل التوتر الخطير الحاصل على حدود الجنوبية للمملكة. وقد نشهد خلال الفترة القادمة تنسيقاً أعلى بين السعودية وإيران في هذا الملف، ليتحول البلدان إلى كتلة تعمل بشكل مشترك لتأريض النشاط الأمريكي هناك، الذي يستهدف السعودية وإيران معاً.

في السودان

الدور الأمريكي في السودان يتمثل في كون واشنطن طرف أساسي في «مباحثات جدّة» التي تيسرها إلى جانب السعودية، لكن هذه الجهود لم تكلل حتى اللحظة بالنجاح، ولم تحقق أي تقدم ملموس، لا بل إن سقف آمالها ينخفض يوماً بعد آخر، ما يطرح السؤال جدياً حول جدوى وجود الولايات المتحدة كطرف «ميسر» في مباحثات من هذا النوع! فانفجار الوضع في السودان له تأثيرات أمنية واقتصادية خطيرة على السعودية، كونه جزءاً من حدودها الغربية، ولذلك لا داعي لإثبات أن المصلحة السعودية العميقة تتطلب وضع حد للمواجهات الجارية حالياً، أو إيجاد أرضية للتفاهم قادرة على حفظ الحد الأدنى الضروري من الاستقرار، لكن الوضع بالنسبة لواشنطن مختلف للغاية، فالمصلحة الأمريكية تقتضي تغذية هذا الصراع وإعاقة أي تفاهم يمكن الوصول إليه، نظراً لكونه يشكّل عامل ضغط كبير على السعودية ومصر، ويُمكّن واشنطن من التحكم الأكبر بسلوك البلدين عبر إمساكها بخيوط مؤثرة في السودان، ومن جهة أخرى، يعتبر تفجير السودان عاملاً أساسياً في توتير منطقة القرن الإفريقي، وعاملاً معيقاً أمام النشاط الروسي والصيني في إفريقيا، كون السودان أحد بوابات العبور إليها، هذا إلى جانب تأثيرات النزاع في السودان على عدد من دول المنطقة، التي بدأت بالفعل تتحمل تبعات ما يجري، والتي يمكن أن تمتد إلى أراضيها، إذا لم يجرِ احتواء المشهد.

إيجاد مخارج من الأزمة السودانية واليمنية يرتبط بشكل مباشر بالعمل على قطع خيوط التأثير الأمريكي في هذه الملفات، وإن كانت واشنطن لا تزل تملك رصيداً يسمح لها بدعم كل ما يعيق الحل على شاطئي البحر الأحمر، تستطيع قوى إقليمية أخرى، مثل: السعودية وإيران ومصر، أن تسعى بشكل مشترك لإبعاد واشنطن عبر تعميق تفاهماتها وتأريض محاولات التخريب الأمريكية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1126
آخر تعديل على الإثنين, 19 حزيران/يونيو 2023 16:42