ماذا يعني فشل الهجوم المضاد في أوكرانيا؟
تشهد جبهة المواجهة في أوكرانيا تصعيداً كبيراً، وتبدو الإشارات الأولية أن ما يحدث يمكن أن ينتقل إلى مستوى نوعي جديد، ففهم الأسباب العميقة لانفجار الوضع في أوكرانيا يمكن أن يساعد أيضاً في فهم ما الذي قد يترتب على نتائج هذا الانفجار، لا في الميدان الحالي فحسب، بل على المستوى العالمي ككل.
بعد أن كانت جبهات القتال في أوكرانيا قد شهدت نوعاً من الاستقرار النسبي، تخللته، بالطبع، معارك ومناوشات يومية، لكنها لم تغير خطوط المواجهة بشكلٍ كبير. وترافق ذلك بحديث مكرور عن التحضير لهجوم أوكراني مضاد، بشرط أن يؤمن الغرب «طلبية الأسلحة» التي تحتاجها أوكرانيا، فهل يمكن أن نسمي ما يجري اليوم صفارة البدء لهذا الهجوم؟
تفجير سد كاخوفكا
تعرّض سد نوفا كاخوفكا على نهر دنيبرو التابع لمحطة محطة كاخوفسكايا الكهربائية، إلى هجوم في يوم الثلاثاء 6 حزيران الجاري، وما أن تم الهجوم حتى تبادلت روسيا وأوكرانيا الاتهامات حول من يقف وراء تنفيذ هذه العملية، التي ألحقت أضرار بعشرات الآلاف من السكان، إذ تضرر 14 ألف منزل في 15 تجمعاً سكنياً، وما تبع ذلك من فيضان ناتج عن تسرّب غير منتظم لمياه بحيرة السد، التي تقدر المياه المحتجزة ضمنها بـ 18 مليون متر مكعب، وتستخدم لتبريد محطة زاباروجيا النووية، بالإضافة إلى كونها مصدراً أساسياً من مصادر تزويد الجنوب الأوكراني بالمياه، وخصوصاً شبه جزيرة القرم. التطورات اللاحقة لهذه العملية قدّمت دعائم للرواية الروسية، فبالرغم من أن تفجير أجزاء السد ألحق أضراراً طفيفة بأوكرانيا، إلا أن آثاره على الجانب الروسي كانت أكبر بكثير، فبسبب الفرق بين مناسيب ضفتي النهر اتجه الفيضان ليغمر جزءاً كبيراً من الضفة التي تسيطر عليها روسيا، ما أدى إلى تعطيل دفاعات حضرتها القوات الروسية لصد أي هجوم أوكراني مضاد من هذا المحور، هذا بالإضافة إلى أن حادثاً بهذا المستوى شكّل إرباكاً على الجبهة الروسية.
هل بدأ الهجوم المضاد فعلاً؟
بالرغم من الحديث الغربي عن أن هدف تفجير السد كان إعاقة أو تأخير الهجوم الأوكراني المضاد الذي جرى الحديث عنه في الشهور الماضية، برهنت التطورات على الأرض، أن أوكرانيا بدأت بالفعل هجوماً على عدد من المحاور، وهو ما اعتبره الرئيس الروسي بدء الهجوم المضاد الكبير الذي تحدّثت عنه كييف. وأعلنت وزارة الدفاع الروسية في هذا السياق: أن القوات الأوكرانية بدأت هجوماً على 7 اتجاهات منذ مساء يوم الخميس 8 حزيران الجاري، وخصصت 5 ألوية لهذا الهجوم الواسع، وذلك حسب تصريحات وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو. لكن الحدث الأكبر الذي رافق بدء هذا الهجوم لم يكن نجاحات كبرى للقوات الأوكرانية كما جرى الترويج قبل بدء الهجوم! بل العكس تماماً، فبالرغم من أن أسلحة حديثة ظهرت على الجبهة الأوكرانية، إلا أن القوات الروسية بدأت بتوجيه ضربات موجعة، واستهدفت عدداً من قطع السلاح التي استلمتها كييف مؤخراً، فبحسب بيانات وزارة الدفاع الروسية، خسرت أوكرانيا منذ بدأ الهجوم أكثر من 3500 مقاتل، بالإضافة إلى أكثر من 33 دبابة و28 عربة قتال و38 عربة مصفحة، هذا بالإضافة إلى منصات مدفعية من طُرز متنوعة، وكذلك وجّهت القوات الروسية ضربات إلى مستودعات ذخائر ومطارات عسكرية.
مقابر آليات
اللقطات التي تنشرها وزارة الدفاع الروسية شكّلت عامل إرباك كبير في ميدان المعركة، فغزت بعض التسجيلات المصورة وسائل الإعلام، وهي لقطات توثيقية صوّر بعضها من طائرات روسية مسيّرة رخيصة الثمن، وهي توجه ضربات قاتلة إلى دبابات ومدرّعات أوكرانية. وثّقت اللقطات المتداولة استهداف دبابات ليوبارد الألمانية، ومركبات برادلي الأمريكية، وغيرها من المعدات الثمينة. وبالرغم من محاولات التشكيك الأولية بصحة هذه الوثائق، بدأت بعض الأصوات الغربية بالاعتراف بأن الجيش الأوكراني يتلقى ضربات موجعة بالفعل، كان أبرزها: تصريحات رئيس مجمع الصناعات العسكرية الألماني، أرمين بابيرغر، الذي قال في تعليقه على هذه اللقطات: «في الحياة هناك دائما خسائر» مؤكداً، أن المعامل الألمانية قررت زيادة في إنتاج القذائف، لكنه شكك في أن تستلم أوكرانيا احتياجاتها خلال آجال زمنية مناسبة. وفي السياق نفسه، أكد المستشار الألماني أوليف شولتز، أنه لا يعرف «متى ستنتهي هذه الحرب» ونبّه على هذا الأساس بضرورة «الاستعداد لتقديم العون لأوكرانيا لفترة أطول».
مؤشرات أوّلية
وسائل إعلام كبرى نقلت عدداً من الأخبار والتصريحات لتثبت أن الهجوم الأوكراني بدأ فعلاً، كان أبرزها جريدة واشنطن بوست، التي قالت: إنها استندت إلى تصريحات مسؤولين عسكريين أوكرانيين دون أن تسميهم، أكدوا فيها بدء الهجوم المضاد، وهو ما دفع كييف لنفي ما جاء في الصحيفة الأمريكية، وغيرها من المنابر الإعلامية، مثل: إن بي سي. لكن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، أكد لاحقاً في يوم السبت 10 حزيران، أن الهجوم الأوكراني قائم بالفعل، لكنه تمسّك بعدم الكشف عن المرحلة التي وصل إليها حتى اللحظة. أي أننا أصبحنا أمام اعتراف رسمي من الجانب الأوكراني، لا بد أنه سيلقي بظلال ثقيلة على كل الدول الغربية. وهو ما ينبغي الوقوف عنده مطولاً!
أهداف الهجوم المضاد كانت متباينة بلا شك، ويمكن لنا تحديد سقفها الأعلى والأدنى، فبحسب الرئيس الأوكراني، كان الهدف النهائي من العمليات العسكرية الأوكرانية هو دفع القوات الروسية للانسحاب من كامل الأراضي التي سيطرت عليها منذ بدء المعارك في شباط 2022، بل إن زيلينسكي كان مصراً على إعادة السيطرة على شبه جزيرة القرم بعد أن أصبحت جزءاً من روسيا منذ 2014، واعتبر كل ذلك شرطاً أساسياً لأي عملية تفاوضية روسية- أوكرانية. من جانبٍ آخر، وإذا ما نظرنا إلى التصريحات الرسمية الأمريكية، كان يبدو واضحاً أنّ واشنطن تدرك استحالة الوصول إلى أهدافٍ كهذه، فبعض الضباط المرموقين في الجيش الأمريكي، مثل: وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، أكدوا مراراً، أن القوات الأوكرانية غير قادرة على إلحاق الهزيمة بالجيش الروسي، ما يعني بشكلٍ ملموس أن الولايات المتحدة تسعى بأحسن الأحوال إلى ادامة الاشتباك إلى الحد الأقصى الممكن، وتسعى أيضاً إلى تأمين متطلبات هذا الاشتباك من خزائن ومخازن الأوروبيين بشكل رئيسي أملاً في استنزاف أكبر قدر ممكن من القدرات والأسلحة الروسية. إلا أن النظرة الموضوعية إلى ميدان المعركة تؤكد أن بداية الهجوم المضاد لم تكن موفّقة أبداً، وأن الأسلحة، مثل: دبابات ليوبارد وغيرها، التي يجري تدميرها لن يكون بالإمكان تعويضها في القريب العاجل، ما يعني أن المهمة الموضوعة أمام القوات الأوكرانية وداعميها ستكون صالحة لآجال محدودة، وإن فشل الهجوم المضاد قد يعني أن المخطط الذي جرى تحضيره في أوكرانيا لن يكون قادراً على تحقيق الغرض الأساسي منه، ومن الممكن تثبيت هذه الحقيقة خلال فترة قصيرة.
التطورات التي يجري الحديث عنها لا يمكن حصرها في الحدود الأوكرانية، فإذا استنفذت واشنطن إمكانية استنزاف روسيا على هذه الجبهة، ستكون مضطرة للبحث عن جبهات أخرى يمكن تفجيرها، البحث الأمريكي هذا لا يضمن نجاح مساعٍ كهذه، فالدول المؤثرة في عدد من الأقاليم باتت تدرك حجم الأزمة الأمريكية، وتعمل بشكل متسارع لاتخاذ إجراءات تدعيم تحصيناتها بوجه أي حماقة أمريكية متوقعة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1126