قمة رؤساء أمريكا اللاتينية... القارة توضح اصطفافها دولياً
تتجه دول أمريكا اللاتينية نحو التعاون والتكامل في مصالحها المشتركة، وبالضد من مصلحة أي قوى خارجية تسعى لفرض مشاريعها في المنطقة، وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية، حيث توضّح ذلك خلال القمة التي جمعت رؤساء دول أمريكا اللاتينية برفقة وزراء خارجية بلادهم، وبعضاً من مستشاريهم في العاصمة برازيليا يوم الثلاثاء الماضي 30 أيار.
عُقدت القمة بمبادرة برازيلية أطلقها الرئيس لولا دا سيلفا، معلناً أنها ستجري عبر اجتماع مغلق وغير رسمي «نسبياً» مع عدم ضمان وجود بيان ختامي، وذلك من أجل إضفاء أجواء أكثر راحة لمناقشة مختلف المسائل والقضايا. ووفقاً لمسؤولة العلاقات مع أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي في الحكومة البرازيلية، جيزيلا ماريا فيجيريدو، فقد كان الهدف العام من الاجتماع هو «استئناف الحوار» و«إيجاد رؤية مشتركة»، وأشارت التقارير الأولية قبيل الاجتماع أن ما سيجري مناقشته يشمل مجالات الصحة والبنى التحتية والطاقة والبيئة ومكافحة الجريمة المنظمة.
حضر الاجتماع رؤساء 11 دولة من أمريكا اللاتينية، من بينهم الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، الذي وصل البلاد لأول مرة قبل يومين من موعد القمة بعد غياب دام 8 سنوات، إثر قطيعة سياسية كان قد افتعلها الرئيس البرازيلي الأسبق جايير بولسونارو، وتغيّبت عن القمة رئيسة البيرو دينا بولوارتي فقط.
خلال الاجتماع، دعا الرئيس البرازيلي لولا داسيلفا إلى الوحدة والتغلب على الخلافات الأيديولوجية، قائلاً: «تركنا الإيديولوجيات تقسمنا وتعطّل جهود التكامل الإقليمي... تخلّينا عن آليات الحوار والتعاون وخرجنا جميعًا خاسرين» مضيفاً «إذا لم نتّحد لن نتمكّن من ضمان أن تكون التنمية في أميركا الجنوبية عند مستوى إمكاناتها».
وفي كلمته دعا لولا الرؤساء المجتمعين لإنشاء عملية إقليمية موحدة للتجارة فيما بينهم، وهو ما يعني عملياً التخلّي عن الدولار كعملة تبادل فيما بينهم، خاصة وأن كلاً من البرازيل والأرجنتين وبوليفيا قد بدأوا بإجراءات التخلي عن الدولار منذ مطلع العام الجاري وحتى الآن.
وأشارت التقارير عقب الاجتماع إلى أن الرؤساء اتفقوا على إنشاء «مجموعة اتصال» وزارية لوضع خارطة طريق تهدف لتعزيز التكامل في المنطقة.
عودة فنزويلا للبرازيل
غطّت جزئية زيارة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو للبرازيل على مضمون الاجتماع بمعانيه وأهميته، وكانت هذه الجزئية هي الأكثر تداولاً في الإعلام والتحاليل السياسية كصدى للمحاولات الغربية لاستخدامها ذريعة للتغطية على الحدث الرئيسي وشيطنة لولا دا سيلفا، تحديداً خلف اتهامات له بالتعامل مع رئيس نظام «دكتاتوري» يمتلك رصيداً بـ «انتهاك حقوق الإنسان» ويفتقر «الديمقراطية والحرية» من وجهة النظر الأمريكية.
وصف لولا استئناف العلاقات مع فنزويلا بأنها لحظة «تاريخية» وكان قد وجه انتقادات لسلفه بولسونارو ضمن هذا السياق «لاختياره طريق العزلة» و«إغلاق الباب أمام الشركاء التاريخيين»، حيث قطعت العلاقات بين البرازيل وفنزويلا بعدما انضم بولسونارو للجوقة الغربية، في محاولة دعم الانقلاب السياسي الذي حاول إجراءه المعارض الفنزويلي خوان غوايدو، والاعتراف به برفقة عشرات الدول الأخرى رئيساً للبلاد. وحظر بعد ذلك دخول مادورو إلى لبلاد.
خلال الاجتماع، أبدى كل من رئيسي تشيلي والأوروغواي انتقاداتهما لعودة العلاقات مع فنزويلا، حيث قال رئيس الأوروغواي لويس لاكيل بو رداً على اعتبار لولا داسيلفا: إن ما يجري تداوله من اتهامات لفنزويلا محض «رواية» بالقول «تفاجأت بسماع أن ما يجري في فنزويلا وصف بالـ رواية، وأسوأ ما يمكننا فعله هو تناسي كل ما يجري خلف هذا الأمر»، وقال رئيس تشيلي المصنّف يسارياً، غابرييل بوريك: إنه «ينبغي احترام حقوق الإنسان دائماً، وفي كل مكان بغض النظر عن اللون السياسي للقادة في السلطة».
رداً على ذلك قال مادورو: إن كلاً تشيلي والأوروغواي «يمتلكان رؤية مشتركة» بينما تمتلك فنزويلا رؤية أخرى، فـ «هناك رؤساء برؤى متنوعة... لا يوجد لدينا مشكلة بالجلوس والتحدث مع أية قوة سياسية، أو أي رئيس بحوار محترم ومتسامح مع التنوع».
بدوره ردّ سيلفا متسائلاً: إن «هذه المطالب نفسها التي يطرحها العالم الديمقراطي على فنزويلا لا يجري تقديمها للسعودية» مثلاً، وقال بعد الاجتماع: «لطالما دافعت عن فكرة أن لكل دولة سيادتها بتقرير نظامها السياسي وشؤونها الداخلية».
وكان البيان الختامي للاجتماع قد ذكر أن دول أمريكا اللاتينية ملتزمة بالديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية، مؤكداً، أن دول المنطقة اتفقت على احترام التنوع ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية لبعضها البعض. لكن المسألة الأهم تكمن في أن التفريق بين وزنين أساسيين في أمريكيا اللاتينية، مثل: البرازيل وفنزويلا كان من شأنه أن يعيق أي دور فاعل وحقيقي لأمريكيا اللاتينية، ولذلك لا يمكن تجاهل أن عودة العلاقات بين البلدين من شأنها أن تفتح الطريق أمام دول أمريكيا اللاتينية لممارسة دور أكثر فاعلية على المستوى الإقليمي والدولي.
إعادة إحياء اتحاد دول أمريكا الجنوبية؟
ربما أهم ما في القمة، هي محاولة إحياء مسار اتحاد دول أمريكا الجنوبية «أوناسور» الذي تم الاتفاق حوله في 2004 وأسس من قبل الرئيسين البرازيلي لولا داسيلفا والفنزويلي هوغو تشافيز عام 2008، وضم في حينه 12 دولة لاتينية معظمها بقيادات سياسية يسارية، وكان آخر اجتماع رسمي لها قد عقد عام 2014.
إلا أن التغيّرات السياسية التي جرت في المنطقة منذ ذلك الحين بصعود التيارات اليمينية، أدت إلى خروج عدد من الدول من الاتحاد، كان من بينها البرازيل نفسها، والأرجنتين، وكولومبيا في 2018 الذي وصفه رئيسها إيفان دوكو أنه يدعم «يدعم الدكتاتورية الفنزويلية» والتي لم تكن سوى ذريعة لإضعاف الاتحاد.
أما الآن، ومع عودة صعود التيارات المصنّفة «يساراً» في أمريكا اللاتينية، ومنها: البرازيل وتشيلي وكولومبيا مؤخراً، فقد أعيد هدف إحياء اتحاد أوناسور من جديد، وكانت القمة يوم الثلاثاء خطوة ضمن هذا الاتجاه.
أما ما يتعلق بالاتحاد نفسه كتكتل وتحالف للدول اللاتينية، سواء أعيد احياؤه نفسه، أو تحت أي اسم جديد آخر، فتكمن أهميته بمواجهة التدخلات الخارجية، وتحديداً منها الأمريكية في المنطقة، والتوجه نحو التكيّف مع السياسات الدولية الجديدة وعلاقاتها على المستوى الإقليمي وفقاً للمصلحة المشتركة بين هذه الدول، وتحت عناوين التعاون والتكامل واحترام السيادة والتعددية والتنمية المشتركة، التي تشكل بمجموعها صورة النظام العالمي الجديد الناشئ.
تلمّس الغربيون لهذا التهديد
رغم ذلك، تفتقر القارة اللاتينية بالعموم لحالة الاستقرار بالجانب السياسي بعد، فعلى الرغم من أن الميل العام يتجه نحو صعود التيارات المصنّفة يساراً، وأكثر من ذلك صعود يسار فعلي لاحقاً، إلا أن الفترة الحالية تشهد تقلبات عدة لا يستبعد خلالها أن تعاود بعض التيارات اليمينية بالصعود مؤقتاً، خاصة مع الدعم الأمريكي المستمر لها، ووضع بعض العراقيل أمام التوجهات العامة المذكورة سابقاً، وضمن هذا السياق اتخذت بريطانيا مهمة ودوراً بالتأثير على هذه التوجهات، حيث زار وزير خارجيتها جيمس كيفرلي جامايكا وكولومبيا وتشيلي والبرازيل قبل قرابة الأسبوع، معلناً من تشيلي أن «بلدان أمريكا اللاتينية ستلعب دوراً حاسماً في تغيير النظام العالمي والعلاقات الدولية في القرن الـ21» ومحاولاً بشكل بائس استمالة البرازيل عبر تأكيده تأييد بلاده منحها العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي، إلا أن القمة نفسها وما تضمنته أعطت رداً واضحاً و«حاسماً» فيما يتعلق بدور القارة واصطفافها تجاه تغيير هذا النظام العالمي.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1125