هل يسمح الواقع الدولي الجديد بدور أكبر لجامعة الدول العربية؟

هل يسمح الواقع الدولي الجديد بدور أكبر لجامعة الدول العربية؟

اختتمت في 19 من شهر أيار الجاري أعمال القمة 32 لجامعة الدول العربية في السعودية، وجذب هذا الحدث اهتماماً أكبر من المعهود لعدد من الأسباب، كان أبرزها: عودة سورية إلى مقعدها بعد 12 عاماً من تجميد عضويتها، وحضور غير معلن مسبقاً للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، إلى جانب عدد آخر من الأحداث التي تحوّلت لعناوين في عدد كبير من الصحف العربية.

يمكن قراءة هذا الحدث، وما رافقه على عدّة مستويات تختلف فيما بينها من حيث الأهمية. لكن ينبغي في البداية عرض الموقف الرسمي الذي عبّر عنه البيان الختامي، وكلمة الأمين العام أحمد أبو الغيط، فيما يخص بعض القضايا الساخنة التي تتطور في المنطقة والعالم.

«إعلان جدّة» في سطور

عالج البيان الختامي جملة من المسائل، كان على رأسها القضية الفلسطينية، وأعاد التأكيد على التزام الدول العربية بمبادرة السلام العربية والقرارات الدولية ذات الصلة، التي تقتضي إعلان دولة فلسطين مستقلة على حدود 1967 وتكون عاصمتها القدس الشرقية، وضرورة إنهاء الاحتلال ووقف الاعتداءات الصهيونية المتكررة. واتسم الموقف الرسمي مما يجري في السودان بالتوازن، إذ أكد إعلان جدّة على ضرورة اعتماد الحوار كمخرج من الأزمة الحالية، وذكّر بضرورة الحفاظ على مؤسسات الدولة ومنع انهيارها، ورفض كل أشكال التدخل الخارجي في شؤونها، وهو ما يضمن رفع المعاناة عن الشعب السوداني. وبما يخص عودة سورية إلى الجامعة بعد قرار تجميد عضويتها عام 2012 أمل البيان أن يسهم ذلك في مساعدة سورية على «تجاوز أزمتها اتساقاً مع المصلحة العربية المشتركة».
كما عرّج البيان على عدد من المسائل الأخرى، مثل: الأزمة اليمنية وآفاق التسوية فيها، وأعرب عن تضامنه مع لبنان، ودعا كافة الأطراف للحوار بهدف انتخاب رئيس جديد يرضي طموحات اللبنانيين. وكذلك رفض إعلان جدّة كل أشكال التدخلات الخارجية في شؤون الدول العربية، وأعلن رفضه التام لتشكيل أي جماعات ومليشيات مسلحة خارجة عن نطاق مؤسسات الدولة. وأشار في الوقت ذاته إلى أنّ الصراعات العسكرية الداخلية لن تؤدي إلى انتصار طرفٍ على آخر، وإنما تفاقم معاناة الشعوب العربية.
في سياق متصل، جاءت كلمة الأمين العام لجامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط لتوضيح حساسية الظرف الذي يعيشه العالم، عدّ الأمين العام: أنّ: «المشهد الدولي يمر بواحدة من أشد الفترات خطورة في التاريخ المعاصر»، وهو ما يفرض على الدول العربية أن «تتمسك بمصالحها لتكون معياراً أساسياً للمواقف الدولية»، وأشار في الوقت نفسه إلى أن الأزمات العربية تشهد الآن «حالة من التجميد مقارنة بأوضاع أشد اشتعالاً شهدناها في السابق» وهو ما رأى فيه أبو الغيط فرصة يتوجّب اغتنامها من أجل تفعيل «حلول عربية لتلك الأزمات العربية». رحّب الأمين العام في كلمته بالاتفاق الذي وُقّع بين السعودية وإيران في شهر آذار الماضي، معتبراً أن العلاقات بالجيران يجب أن تتأسس دوماً على أساس من احترام مبادئ حسن الجوار، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.

كيف يمكن قراءة ما يجري؟

برغم الاهتمام الإعلامي الكبير في مجريات القمة التي عقدت في مدينة جدّة السعودية، ظلّت بعض القضايا الأساسية غائبة عن الجمهور، ولم تلق الاهتمام الكافي من وسائل الإعلام والمحللين، ما يعني تقديم هذا الحدث أو غيره بمعزل عن مجمل التطورات العالمية، وبالتالي عرضه وتقيّمه في حالة سكون مفترضة، بدلاً من محاولة فهمه في ضوء حركته المستمرة. ما يسبب تشوّهاً في قراءة ما يجري حولنا. ويمكننا القول: إن ما سبق استعراضه من مواقف رسمية في البيان الختامي وكلمة الأمين العام، برغم كونها مواقف متوازنة وإيجابية، إلا أنها تعتبر جانباً من جوانب متعددة للمسألة، وهنا ينبغي الإجابة عن سؤال مشروع: ما الدور الفعلي الذي تستطيع جامعة الدول العربية أن تؤديه؟ وهل يمكن لها أن تسهم بشكلٍ فعال في حلِّ أيٍّ من المسائل التي تطرق لها إعلان جدّة مثلاً؟
الإجابة عن أسئلة كهذه تفرض علينا إلقاء نظرة سريعة على ظروف نشأة هذه المنظمة، التي تأسست رسمياً في القاهرة في شهر آذار من العام 1945 ولذلك تعتبر أقدم منظمة إقليمية تنشأ بعد الحرب العالمية الأولى. وعقدت المنظمة أول اجتماعاتها في عام 1946. وبالنظر إلى تلك الحقبة يمكن أن نرى بوضوح أن الدافع الأساسي لظهور هذه الفكرة لدى الدول العربية السبع المؤسسة لها (مصر والعراق وسورية ولبنان والسعودية والأردن واليمن)، كان منسجماً مع نزعة استقلالية في الشارع العربي تعاظمت في فترة نهاية الاستعمار وبدء حقبة جديدة من التاريخ الحديث. ولا مجال للشك بأن تأسيس هذه المنظمة لم يكن معزولاً عن ظهور منظمات وهياكل أخرى عبّرت بشكلٍ أو آخر عن عالم جديد نشأ بعد الحرب العالمية الثانية. وهذا ما فرض على الجامعة في تلك الحقبة أن تؤدي دوراً تقدّمياً ينسجم مع ظهور وتطور حركات التحرر الوطني، فكان دعم استقلال الدول العربية التي كانت لا تزال تحت الاحتلال موضوعاً على رأس جدول الأعمال، وحصلت القضية الفلسطينية على حيزٍ مهم من الاهتمام، وصاغت الجامعة جملة من الثوابت العربية التي عكست في حينه مصالح الشعوب العربية. وبدا ذلك واضحاً أيضاً في قمة بيروت عام 1956 التي تزامنت مع العدوان الثلاثي على مصر، ثم قمة 1967 في الخرطوم، التي أسهمت في شحذ الهمم مجدداً بعد عدوان 1967 وأعادت تثبيت الموقف العربي في وجه الكيان الصهيوني. يمكن الحديث أيضاً عن أدوار أخرى أدتها الجامعة العربية في أحداث أيلول الأسود عام 1970، وحرب تشرين وغيرها.
لكن الجامعة الدول العربية كغيرها من المنظمات الدولية بدأت تخضع تدريجياً لواقع دولي جديد، كانت الهيمنة الغربية والأمريكية سمته الأساسية. وإن كان من الضروري إجراء بحث لتحديد هذه الفترة وتطوراتها بدقة، إلا أن جملة من الإشارات يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، ربما يكون أبرزها استئناف عضوية مصر عام 1989 بعد أن جرى تعليقها كرد عربي على توقيع مصر لاتفاقية كامب ديفيد المشؤومة، التي عدّتها الجامعة في حينه متناقضة مع قراراتها، واتخذ القرار على إثرها لنقل مقر الجامعة إلى تونس، لحين زوال الأسباب. ويمكن القول: إنّ دور الجامعة العربية من تسعينيات القرن الماضي أخذ منحى مختلفاً، إذ غدت واقعة تحت تأثير عالم الأحادية القطبية، وأدت أدواراً متناقضة مع مصالح الشعوب العربية، فتراجع دورها الجامع، وفتح المجال واسعاً لتدخلات خارجية، مثل: الدخول الأمريكي في حرب الخليج، وحرب العراق لاحقاً وقصف الناتو لليبيا وغيرها من القضايا.

الظرف يتغير

جامعة الدول العربية كغيرها من المنظمات تستطيع أن تعبّر عن التوازنات العالمية والإقليمية ضمن حدود تأثيرها في المنطقة المعنية، ولذلك تبدو الشعارات التي يجري طرحها، مثل: ضرورة «التمسك بمصالح الدول العربية لتكون معياراً أساسياً للمواقف الدولية» وأن الوقت قد حان «لإيجاد حلول عربية للأزمات العربية» تعبّر بشكل أو آخر عن تشكّل ملامح لدور جديد يتناسب مع الحقبة الجديدة التي يدخلها العالم، وإن كان دور هذه المنظمة معطّلاً أو خاضعاً للهيمنة الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فيمكن القول: إن الظرف اليوم بات مختلفاً، وإن إمكانية حدوث تحولٍ في دور الجامعة العربية هو احتمالٌ واقعي، شأنها في ذلك شأن معظم المنظمات المشابهة التي بدأت تؤدي أدواراً أكثر وضوحاً في العالم، وذلك بتنسيق واضح مع القوى الدولية الصاعدة، التي ترى في إعادة إحياء هذه المنظمات فرصة جدّية لتثبيت قواعد جديدة تعبّر فيها المنظمات الإقليمية عن نزعة استقلالية أعلى، تحرم الولايات المتحدة وأتباعها من إمكانية استخدامها، وتضمن صون مصالح الدول المنضوية في هذه الأطر، ما يفتح الأفق بشكلٍ ملموس أمام كل هذه المنظمات لتؤدي دوراً فاعلاً مؤثراً في الكثير من القضايا والنزاعات التي انفجرت وتشابكت في العقود الماضية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1123