القمة الفرنكوفونية في قاع التاريخ

القمة الفرنكوفونية في قاع التاريخ

عُقدت القمة الفرنكوفونية الـ 18 يومي 19 و20 من تشرين الثاني في المدينة التونسية جربة، لكن خلف الأخبار المتداولة عن نجاح القمة شكلاً من الناحية التنظيمية ومضموناً بما تم مناقشته والإعلان عنه ثقافياً وسياسياً، أظهرت القمة بشكل واضح حالة تراجعٍ بدورها وأثرها.

ما هي الفرنكوفونية؟

تقيم المنظمة الدولية للناطقين بالفرنسية «الفرنكوفونية» قمةً كل سنتين منذ عام 1986 وهي تضم اليوم 58 دولة عضواً و26 دولة مراقبة، علماً أن نشأة المنظمة تعود لشهر آذار من عام 1970، بينما ظهر مصطلح «الفرنكوفونية» لأول مرة في عام 1880، أي في فترة ذروة الاستعمار الفرنسي، بدلالة الدول التي جرى استعمارها، وتعلّمت شعوبها اللغة والثقافة وطريقة التفكير والعيش الفرنسية، ليختزل هذا المصطلح الطبيعة والأهداف الاستعمارية لفرنسا حتى اليوم.
على الرغم من مناقشتها للأوضاع والتطورات السياسية دولياً في جربة، إلا أن مهمة المنظمة الفرنكوفونية وقممها ترتكز على تعزيز الجوانب الثقافية واللغوية الفرنسية في المستعمرات السابقة، بمختلف الأشكال والأدوات الفنية والرياضية والتعليمية والإبداعية والخ، بما يعنيه ذلك من نفوذ وتدخل سياسي فرنسي بهذه البلدان، وبمعنى آخر، كانت ولا تزال الفرنكوفونية تمثل واحدة من الأدوات الفرنسية لإدامة تبعية المستعمرات السابقة لفرنسا وتحديداً الإفريقية منها.

تراجع فرنسي

تدل جميع المؤشرات على تراجع النفوذ الثقافي الفرنسي واللغوي في مستعمراتها السابقة، سواء لصالح اللغة والثقافة الإنكليزية خلال العقود السابقة، أو لصالح الثقافات المحلية بتعزيزها وتمكينها داخل هذه البلدان، وقد اعترف بذلك صراحةً الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال قمة جربة، حيث أعلن أن اللغة الفرنسية قد تراجعت لدى الشعوب «المغاربية» والإفريقية على عكس ما كانت عليه الحال قبل 20 أو 30 عاماً، معتبراً أن القمة الفرنكوفونية يجب أن تحمل مشروعاً لاستعادة مكانة اللغة الفرنسية في «الدول الناطقة بها» وهو ما تم تضمينه في إعلان جربة.
يعد هذا التراجع الثقافي واللغوي الفرنسي موضوعياً، كنتيجة لتراجع فرنسا السياسي والاقتصادي والعسكري المتسارع خلال العقدين الأخيرين على أقل تقدير، والتي كان انسحاب قواتها العسكرية من مالي الإفريقية أحد التعبيرات الواضحة لهذا الأمر.

الحاجة للفرونكوفونية اليوم!

لم تكن تحظى القمم الفرنكوفونية السابقة بنفس الاهتمام الدولي والإعلامي مثلما جرى في قمة جربة الأخيرة، ويُعزا هذا التطور لسببين واضحين على الأقل، الأول: هو بروز دور فرنسي على حساب التراجع الأنغلوساكسوني، وبالاستفادة منه وسط انقسامات سياسية سواء ضمن دول الاتحاد الأوروبي، أو ما بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة، لزيادة وزنها ونفوذها السياسي، والثاني: هو تداعيات الأزمة الاقتصادية عالمياً، وما تفرضه على الدول المتضررة، وأولها تلك الأفقر، كحال تونس المستضيفة لها لتحقق حكوماتها أعلى استفادة ممكنة سياسياً واقتصادياً.
الحالة التونسية هي الأبرز في هذه القمة، تلقّى الرئيس قيس سعيد وحكومته مباركات من ماكرون، ودعماً منه لتنظيم الانتخابات المقبلة، وسط انتقادات حادة من قبل التونسيون فيما وصفوه بالتدخل والمساس بالسيادة الوطنية لبلادهم... فضلاً عن ذلك، فإن هذه القمة قرّبت تونس خطوة إلى الأمام بطريق تحسين علاقاتها مع أوروبا، كما أعلن ماكرون أن فرنسا ستمنح تونس قرضاً بقيمة 200 مليون يورو، علماً أن وزارة الاقتصاد والتخطيط التونسية كانت قد أعلنت في 13 تشرين الثاني أيضاً، أن الاتحاد الأوروبي سيمنح تونس «هبة» بقيمة 100 مليون يورو لدعم ميزانية الدولة.

إعلان جربة

خُتمت القمة الفرنكوفونية الـ 18 بصدور إعلان جربة مع تحفّظات من كندا على ما ورد فيه فيها بما يتعلق بالشرق الأوسط. وتضمن الإعلان بمقتطفات نذكر منها، تعبير بالاستياء عن الحرب في أوكرانيا لما خلّفته من تداعيات سلبية اقتصادية وطاقية وغذائية وإنسانية عالمياً، دون تخصيص مسؤولية بذلك على أية جهة، وندد بالإرهاب بكافة أشكاله، وأكد الأعضاء على وقوفهم يقظين إزاء تحديات التغيرات المناخية.
وأكدوا في الإعلان وجود توجهات جديدة للمنظمة الفرنكوفونية بجهودها لتجديد آليات عملها، لا سيما المتصلة بمستقبل اللغة الفرنسية، وترسيخ «قيم الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، والمساواة بين الجنسين» وغيرها من الأمور.
وتضمن تمسك الأعضاء باللغة الفرنسية، وأكدوا التزامهم بـ «إعلان باماكو وسان بونيفاس» والعمل من أجل «السلم والديمقراطية وحقوق الانسان».
واعتمدت القمة ما سمي بالقمة الاستراتيجية الفرنكوفونية الرقمية 2022-2026 الذي يكفل للفضاء الفرنكفوني بتحقيق تحول رقمي منشود، وضمان اندماجه في الاقتصاد الرقمي العالمي، وفي إطار احترام حقوق الإنسان والديمقراطية.
وفيما يتعلق بالشرق الأوسط، الفقرة التي تحفّظت عليها كندا، عبروا عن دعمهم للجهود الدولية الرامية لإحلال «سلام» عادل وشامل في الشرق الأوسط، ويعترف بالحقوق المشروعة للفلسطينيين بتقرير مصيرهم وإقامة دولتهم المستقلة، وفق مقررات الشرعية الدولية.
يكثّف هذا الإعلان العقلية الاستعمارية والإملائية الفرنسية ويؤكد استمراريتها، من الحديث حول «الديمقراطية» إلى «السلام» مروراً بحقوق الإنسان والمساواة وغيرها، وفقاً للتفسيرات والنظرات الفرنسية فقط، دوناً عن غيرها، وتتلقفها الحكومات التابعة أو الدمى– المستعمرات السابقة– وتمضي بها انطلاقاً من مصالحها الضيقة بضمانة استمرارية حكمها ونهبها.

الإعلان في مكان والواقع في مكان آخر

على الرغم من الضجيج حول القمة وصيغة الإعلان الصادر عنها، إلا أنّ كلا الأمرين أكبر بكثير من حجم ودور المنظمة اليوم، وهي تعبّر عن نظرات وطموحات الحكومة الفرنسية الحالية، والحكومات المرتبطة بها والمستفيدة منها من المستعمرات السابقة، أما واقع الحال سواء بالنسبة للشعوب أو للتطورات الدولية عموماً، فإنها تمضي باتجاه مغاير تماماً، باتجاه استقلال حقيقي كامل ليس أقله الجانب الثقافي ولا أكبره السياسي، ففرنسا كنظيراتها الغربية تعاني من أزمة حادة وتراجع مطرد، وبمقابل ذلك تبرز وتصعد قوى شعبية وطنية من جهة، وقوى دولية مناهضة لمجمل العقلية الاستعمارية والإمبريالية الغربية من جهة أخرى.
فبالإضافة للانتقادات الشعبية التونسية السابق ذكرها، لم تمضِ القمة دون التطرق للجانب الدولي أيضاً، حيث طُلب من ماكرون الرد على أحد المنتقدين له بأن فرنسا تستغل العلاقات الاقتصادية والسياسية التاريخية في مستعمراتها السابقة خدمةً لمصالحها، ليجيب لقناة تي في 5 موند: «يغذي الآخرون هذا التصور، إنه مشروع سياسي... أنا لست أحمقاً، فالعديد من المؤثرين، الذين يتحدثون في بعض الأحيان في برامجكم، يدفع لهم الروس. نحن نعرفهم... هناك عدد من القوى التي تريد نشر نفوذها في إفريقيا، تفعل ذلك لإيذاء فرنسا والإضرار بلغتها وزرع الشكوك».
تعبّر هذه التصريحات بوضوح عن العقلية الفرنسية الاستعمارية، فالقول بأن مصدر أي انتقاد للدور والتاريخ الفرنسي في إفريقيا يُرد إلى «نشاط روسي أو صيني مشبوه» هو إنكار ضمني لموقف شعوب المستعمرات السابقة، والتي عبّرت عنه بانتفاضات شعبية مسلحة لعقود تذكرها فرنسا جيداً. فيحاول ماكرون متحاذقاً تصوير الموقف الوطني التاريخي للشعوب الإفريقية بوصفه موقفاً مأجوراً في محاولة يائسة لاستعادة نفوذ استعماري سابق.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1098