الصراع محتدم: من يضع قواعد هذا العالم؟

الصراع محتدم: من يضع قواعد هذا العالم؟

قد لا تشير كلمات مصطلح «النظام القائم على القواعد» حفيظة الجميع، فترتبط- كما يشير الباحثون في القانون الدولي- بمفاهيم إيجابية بالنسبة لعموم الناس كـ «النظام» و«القواعد» والتي يعتبر وجودها بالنسبة لهؤلاء مرادفاً لمصطلحات أخرى إيجابية، كالعدل والوفاق. فما سر رفض بعض الدول لهذا المصطلح؟

من أين جاء هذا التعبير؟ وما هو موضع الخلاف بالضبط؟ وما هي حدود الانقسام حول مصطلحات كهذه؟

التاريخ المجهول!

قد يتبادر لأذهان البعض، أن «النظام القائم على القواعد» مرادف للقانون الدولي، لا بل إن فريقاً من السياسيين يستخدمونه بالفعل كذلك. في الوقت الذي يميّز آخرون بينهما. فنلحظ مثلاً رفضاً روسيا/ صينياً شرساً، للمطابقة بين المصطلحين، وانضمت إلى جانبهم دول جديدة في توجيه انتقادات لاستخدامه ونقاش معناه.
تكمن المشكلة، أولاً: في تحديد التاريخ الذي ظهر فيه هذا المصطلح، ففي الوقت الذي أنتجت اتفاقات يالطا 1945 وما تلاها الأساس الأحدث لما عرف بالقانون الدولي، والذي كانت مفرداته المعروفة، مثل: ميثاق الأمم المتحدة، ومجلس الأمن وغيرها من الاتفاقات والمعاهدات الدولية التي شكلت أساساً توافقياً ملزماً للجميع نظرياً. ظهر مصطلح «النظام القائم على القواعد» في فترة أحدث. فعلى الرغم من أن البعض يشير إلى أن جذوره الأولية تعود أيضاً إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، يجادل البعض الآخر بأن ظهور هذا المصطلح يُعدّ أحد نتائج الحرب الباردة، التي انتهت بانهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك منظومة الدول الاشتراكية. من جانب آخر وإذا ما جرى نقاش هذه المسألة من بابها السياسي، يمكننا القول: أن التوافقات التي جرى تثبيتها بعد الحرب العالمية الثانية، والتي عبّرت عن توازن قوى محدد وقتها، كان لا بد أن تتغير مع تغير هذا التوازن. فانهيار منظومة الدول الاشتراكية والاتحاد السوفييتي أفسح المجال أمام الغرب لوضع «قواعد جديدة» لم يكن ظرف الدول المنهارة والمقسمة حينها يسمح بإبداء رأيها فيها أو رفضها.

السؤال الأصعب:
ما هي هذه القواعد؟

الخلاف المذكور حول تاريخ ظهور هذا المصطلح لا يقل أبداً عن الخلاف حول تحديد القواعد التي يجري الحديث عنها. وهنا تكمن المشكلة الأكبر. فمعظم ما يجري تداوله حولها لا يُعتبر إلا مصطلحات عامة بأحسن الأحوال، أما في مواضع أخرى فتظهر ملامحه بشكلٍ أوضح ليدور الحديث عن «مفاهيم الليبرالية» وسيادة «القيم الغربية» (والذي يعد مصطلحاً إشكالياً آخر ينبغي التوقف عنده أيضاً). لكن ما يثير الانتباه حقاً، أن كثافة استخدام المصطلح من قبل السياسيين الغربيين لا تقابلها إيضاحات كافية لمعناه، وهذا على الرغم من هجوم الخصوم عليه. كما لو أن المطلوب من «النظام القائم على القواعد» أن يتبدل حسب الحاجة، ودون تبريرات وهو ما ترى فيه روسيا والصين- محقّتين في ذلك- باباً واسعاً للابتزاز السياسي من قبل الغرب.
فكانت هناك محاولات بحسب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف «لاستبدال القواعد العالمية للقانون الدولي بـ (النظام القائم على القواعد)» ويرى لافروف، أن هذا المصطلح ظهر «مؤخرًا لتمويه السعي إلى ابتكار قواعد تعتمد على التغييرات في الوضع السياسي، بحيث تكون قادرة على ممارسة الضغط على الدول غير المرغوبة، أو حتى على الحلفاء في كثير من الأحيان». ويظهر الموقف الصيني مشابهاً للموقف الروسي، فناقش وزير الخارجية وانغ يي المسألة، واعتبر أن هذا المصطلح سعيٌ أمريكي لتغيير المرجعية الدولية المتمثلة بالقانون الدولي والأمم المتحدة، وسأل وزير الخارجية الصيني: «من سيضع هذه القواعد؟» التي عرّفها بأنها قواعد وضعتها الدول الغربية، والتي تضم 12% من سكان العالم، وتريد فرضها على سكان الكوكب!

ماذا تقول الولايات المتحدة حول المسألة؟

الولايات المتحدة أكثر من يستخدم ويروج للمصطلح، فمراجعة التصريحات الأمريكية الرسمية كتلك الصادرة عن البيت الأبيض، أو الخارجية، أو الدفاع، كافية لإدراك حجم استخدامه، لكن مع ذلك تبقى الصعوبة قائمة في تحديد معناه الحقيقي، وقد أحالنا بعض الباحثين إلى مقال كتبه الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في جريدة واشنطن بوست في العام 2016، تحت عنوان «اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ ستسمح لأمريكا، وليس الصين، بقيادة الطريق في التجارة العالمية» إذ يناقش أوباما فيه سبل تحقيق معدلات اقتصادية عالية ويروج فيه لاتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ «TPP». ما يثير الانتباه في مقال أوباما هو تأكيده على أن آسيا في طريقها لتصبح أكثر الأسواق اكتظاظاً بالسكان، وأكثرها ربحاً، ولذلك يُوضّح أن وجود أمريكا في هذه السوق هو «أعظم فرصة لاقتصادها» ليشير لاحقاً إلى حجم المنافسة التي تفرضها الصين في هذه السوق لذلك يقول: إن أمريكا هي من يجب أن تكتب قواعد التجارة في هذه المنطقة، ويجب عليها أن «تحتل الصدارة» مضيفاً: «إن على الدول الأخرى أن تلتزم بهذه القواعد التي صاغتها أمريكا وشركائها لا العكس» ويخص الصين بالذكر!
الطريقة التي يشير فيها أوباما إلى هذه القواعد- ومن له الحق في وضعها، ولمصلحة من يجب أن توضع- تؤكد أسباب رفض القوى الصاعدة الأخرى لها، ومحاولة تغييرها، بل إن وثيقة أمريكية أخرى شديدة الأهمية صدرت عن مؤسسة RAND في 2016 على شكل بحث تحت عنوان «فهم النظام الدولي الحالي» تقدم الكثير من الإجابات وبشكل بعيد عن التجميل أو اللباقة الدبلوماسية! فيشير البحث إلى أن الولايات المتحدة عملت باستخدام كافة الوسائل السياسية والعسكرية والاقتصادية لتثبيت قواعد محددة على أساس مصالحها، وجرى الترويج لها على المستوى العالمي، وتحدد الوثيقة، أن من يقبل هذه القواعد ويلتزم بها يصبح «شريكاً» لها في مواجهة القوى الأخرى التي لا تخضع لها. ويبدو واضحاً أن واشنطن تميّز فترة ما بعد الحرب الباردة ونجاحها مؤقتاً في فرض قواعدها بعد إزاحة أصحاب الرأي المخالف.
وتقدم الدراسة العناصر الأربعة التي تحدد هذا النظام العالمي، وهي: نظام تجاري قائم على قواعد التجارة العالمية، وتحالفات قوية وقدرات عسكرية كافية للردع، ووجود تعاون متعدد الأطراف، وقانون دولي لحل المشكلات العالمية، ونشر الديموقراطية، وتحدد بعدها المؤسسات التي تعزز وتدعم هذه العناصر، مثل: المؤسسات الاقتصادية والتي تقودها منظمة التجارة الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة عام 1947 بالإضافة إلى «اتفاقيات التجارة الحرة الإقليمية والثنائية، وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرها. وتقدم المؤسسات الأمنية والعسكرية الدعم لعمل هذه الضوابط، وتخص الوثيقة حلف الشمال الأطلسي «الناتو» والشبكة العالمية للنظام الأمني الإقليمي والتحالفات الثنائية التي يمكن عقدها بين أي دولتين!

كلمات في الختام:

الولايات المتحدة تتجاهل عند استخدامها مصطلح «النظام القائم على القواعد» أن هذه القواعد لم يجرِ التوافق عليها من قبل الجميع على عكس ميثاق الأمم المتحدة مثلاً! ومع ذلك ترى نفسها الدولة الوحيدة المخولة لصياغتها على أساس مصالحها. ويفترض من الدول الأخرى إما الخضوع، أو مواجهة الناتو، أو أي تحالف عسكري آخر تقوده واشنطن! ليصبح من يرفض أياً من هذه القواعد موضع شبهة بالنسبة لها، ويعامل معاملة «الخارج عن القانون» حتى لو لم يكن طرفاً في صياغة هذه القواعد، ولم يعلن قبوله لها أصلاً، وهو ما يتناقض مع مفاهيم بديهية، مثل: «العقد شريعة المتعاقدين».
إصرار واشنطن على فرض قواعدها على الجميع اتجاه مستمر، ولا يظهر أصحاب القرار هناك أية نية للتراجع عنه، وهو ما أصبح يفرض على أولئك الرافضين لها تغييرها بالقوة، وبكافة السبل المتاحة لهم، مثل: الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وخصوصاً أنها قواعد واشنطن وضعت بما يتناقض مع مصالحهم، ويضع مصلحة بلد واحد فوق مصالح الجميع!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1098