في صراعات قوى العالم القديم..
رغم أنّ الانقسامات السياسية حاضرة دائماً، إلا أنها وحتى وقت قريب، لم تكن تأخذ شكلها العاصف والحاد الذي نلحظه اليوم على مختلف المستويات، الخارجية منها والداخلية، وعلى امتداد المساحة العالمية.
ما يميز هذه انقسامات المرحلة التي نعيشها، هو أن معظمها يجري بين قوىً، تعجز كل منها منفردة عن حسم الصراع لصالحها، وتعجز مجتمعة عن الوصول إلى صيغة من التوافق «وإنْ ضمن الصراع»، تتمكن من خلالها من مواصلة ممارسة السلطة. وهذا في جوهره انعكاس عملي لمقولتين معاً؛ فمن جهة يعبر هذا الواقع عن أنّ الفضاء السياسي القائم بمجمله، وبمختلف قواه وتناقضات هذه القوى، هو فضاء سياسي قديم منقطع الصلة مع أرض الواقع ومع الناس، وهذا يشمل القسم الأعظم من القوى التي في السلطة، ومن القوى التي تعارضها.
المقولة الثانية التي تعبر عن حدة الانقسامات القائمة: هي المتمثلة في حقيقة أنّ التخبط والصراع «الفوقي» الجاري بين النخب والأحزاب، يأتي على خلفية عجز الـ«فوق» عموماً عن مواصلة الحكم بالطريقة السابقة، وهذا لا يقتصر على الـ«فوق» السياسي فحسب، بل وأيضاً الثقافي والفكري... ما يجعل صراعات القوى السياسية والقوى المسيطرة أشد حدة، لأنها تُعبر ضمنياً عن عمليات بحث مريرة لاستعادة السيطرة وعن استعادة إمكانيات الحكم في عصر تتهدده التغييرات الكبرى من كل حدب وصوب...
ما هي حدود الانقسامات اليوم؟
أكثر الانقسامات وضوحاً، هي تلك الحاصلة بين «قوى العالم الجديد» و«وقوى العالم القديم» هذا الانقسام الأكبر والأعرض، لكن ما يجري داخل هذه الصورة العامة أكثر تعقيداً مما يبدو، فنشهد اليوم انقسامات واضحة في كلا المعسكرين، لكن ما يهمنا في هذه المادة، هي الانقسامات التي تعصف بقوى العالم القديم، وأهمها: الانقسام بين الولايات المتحدة وأوروبا، فرغم أن تفاعلاته لا يمكن لحظها بسهولة إلا أنها تتضح وتتعمق يوماً بعد يوم. وإذا كنا حددنا أقطاب هذا الانقسام الأساسية، لا يعني أن الوضع الداخلي في أمريكا أو أوروبا متماسك ومنسجم، بل على العكس تماماً، فالانقسامات الأوروبية واضحة وتفعل فعلها، وكان أبرزها في السنوات السابقة الانقسام الحاصل بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، والذي انتهى بخروج الأخيرة من الاتحاد، ونشهد اليوم تصدّعات أخرى متعددة، والتي تُعد بعضها نتيجة طبيعية لجملة من الأحداث التاريخية، كالانقسام الواضح بين دول شرق وغرب أوروبا، حتى تلك المجتمعة تحت مظلة الاتحاد الأوروبي، فشكّل انضمام دول شرق أوروبا خطوة إضافية في عملية النهب الكبرى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وبدأت النخب السياسية في بعض بلدان شرق أوروبا في البحث عن مخرج عِبر انتهاج سياسات أكثر استقلالية من السابق. من جهة أخرى، يتحدث الخبراء الاقتصاديون عن أن الانقسام الأخطر في الاتحاد الأوروبي يظهر بين دول الشمال الغنية، مثل: ألمانيا وفرنسا، وبين دول الجنوب الأفقر والمثقلة بالديون، مثل: إيطاليا واليونان. أي إننا نتحدث عن تناقضات حتمية في مصالح هذه البلدان ونرى انعكاسها في علاقاتها الخارجية البينية، وأصبح تفاقم هذه التناقضات تهديداً حقيقياً على الوحدة- أو الإطار الجامع لهذه الدول.
انقسامات في الداخل أيضاً
الاستعراض السريع السابق لا يلغي وجود انقسامات ضمن حدود الدولة الواحدة، والأمثلة مؤخراً أصبحت أكثر من أيٍ وقتٍ مضى. مثل: الانقسام الحاصل في بريطانيا، والذي أدى إلى تقلبات متسارعة في منصب رئيس الوزراء، إلى تلك الدرجة التي حطمت فيها رئيسة الوزراء السابقة ليز تراس كل التوقعات، حين استقالت من منصبها بعد أسابيع! ونرى أمثلة مشابهة في فرنسا وإيطاليا وألمانيا وغيرها بأشكالٍ مختلفة.
في الجهة المقابلة- أي الولايات المتحدة- أصبح الانقسام الداخلي واحداً من أبرز المواضيع، وأكثرها تداولاً على المستوى الإعلامي، ويظهر الانقسام الحالي بين الديمقراطيين والجمهوريين ويشتد. وكانت آخر جولاته انتخابات التجديد النصفي، والتي كانت نتائجها تعبيراً عن حدة هذا الصراع، ودرجة التطور التي وصل إليها. وبغض النظر عن النتائج التفصيلية، إلا أنّ اتجاهها العام كان مخالفاً لمعظم التوقعات التي افترضت فوزاً كبيراً للجمهوريين لا في مجلس النواب فحسب، بل في مجلس الشيوخ أيضاً، لكن حدود الفصل المتقاربة أظهرت حجم الصدام وتقارب القوى لكلا الفريقين، فالتوقعات التي استندت إلى تاريخ سياسي طويل كانت خاطئة حتى أنّ نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب قالت: «أفاد الخبراء في واشنطن إننا لا نستطيع الفوز بسبب التاريخ والتاريخ والتاريخ» لتضيف بعدها أن تركيز الديموقراطيين «على التناقض بينهم وبين خصومهم» كان كفيلاً بتحقيق نتيجة مخالفة للتوقعات.
الحديث عن هذه الانقسامات طويل، ولا يمكن حصره في مقالة واحدة، وخصوصاً إذا ما تحدثنا عن الانقسامات الحاصلة داخل الأحزاب نفسها، كتلك التي نلحظها داخل صفوف الجمهوريين أو الديمقراطيين في أمريكا، أو المحافظين في بريطانيا أو غيرها في دولٍ أوروبية أخرى.
نستطيع إيجاد سبب داخلي لأي من كل هذه الانقسامات، كالحديث مثلاً عن ملفات الخلاف بين الجمهوريين والديمقراطيين أو توجهات وطروحات «اليسار واليمين» في أوروبا، لكن هذه التفسيرات تبقى قاصرة، فهي إن كانت مقنعة ضمن حدود البلد الواحد ستفقد معناها كلما ابتعدنا عن حدوده، فإذا كانت الانقسامات هي السِمة الأساسية للمرحلة، فينبغي البحث عن الإطار العام الذي يسمح لها بالظهور والتوسع، إلى أن تصل إلى درجة الاستعصاء الحالية. أي إن كل محاولات تفسير هذه الظاهرة عِبر سرد مسبباتها الداخلية في كل بلدٍ على حِدة، ستصل إلى طريق مسدود.
الانقسامات هذه هي تعبير تاريخي عن عجز أولئك الذين يحكمون عن الاستمرار في الحكم من جهة، وعن الضغط المتزايد الذي يمارسه المحكومون، والذي يعبرون من خلاله عن رفض واقعهم من جهة أخرى. أي إن أزمات الحكم المتنوعة والمختلفة فيما بينها ما هي إلا أزمة حكم واحدة، تضرب عصب النظام العالمي الذي حُسمت هويته بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي. وما نراه هي أشكال لتجلي هذه الحقيقة في مناطق مختلفة وبلبوس مختلف، فالخطوات التي ثبتها النظام الرأسمالي العالمي باتت موضوع تغيير، والانقسامات السياسية الحادة تُعبّر بشكلٍ من الأشكال عن جذرية المهام الموضوعة على الطاولة، والتي لا يمكن إنجازها باستخدام الأدوات القديمة، أو حتى ضمن حدود «الأقطاب المتصارعة».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1097