هل ستتمكن الولايات المتحدة من متابعة دعمها وتمويلها لأوكرانيا؟

هل ستتمكن الولايات المتحدة من متابعة دعمها وتمويلها لأوكرانيا؟

برزت خلال الأسبوع الماضي مناقشات وسجالات سياسية حادة داخل الولايات المتحدة الأمريكية فيما يتعلق بتمويلها ودعمها للنظام الأوكراني برئاسة فولوديمير زيلينسكي في صراعه مع روسيا، لتعلو الأصوات المعترضة على حزم التمويل الهائلة، وتُظهر استطلاعات الرأي وجود ميل شعبي يرفض هذه المساعدات.

انطلقت موجة السجالات الأخيرة هذه مع مجموعة تصريحات أطلقها رئيس النواب الجمهوريين في الكونغرس الأمريكي كيفين ماكارثي يوم الثلاثاء، معلناً خلالها معارضته التدخل والتمويل الأمريكي للملف الأوكراني، وقال: «أعتقد أن الناس الذين سيواجهون ركوداً اقتصادياً لن يكتبون شيكاً أبيضاً لصالح أوكرانيا. لن يقوموا بذلك».
في المقابل، أعلن السيناتور الجمهوري ميتش مكونيل عن موقفٍ مغاير رداً على ماكارثي وقال: «على إدارة بايدن وحلفائنا بذل المزيد من الجهد من أجل تزويد أوكرانيا بما تحتاجه من أدوات لمواجهة العدوان الروسي»، وقال الرئيس الأمريكي جو بايدن أيضاً حول الجمهوريين بالاستناد إلى تصريحات ماكارثي: «هؤلاء الناس لا يفهمون الأمر. إنه أكبر بكثير من أوكرانيا. إنه أوروبا الشرقية، إنه الناتو، ويحمل نتائج جادة وخطيرة».
ومن هذه الأقوال تساؤل ماكارثي: «ألا تريدون تشييكاً وميزانية في الكونغرس؟ ألا تريدون وجود شخص يشرف على أموال دافعي الضرائب المجتهدين؟»

انزياح بمزاج الأمريكيين

أجرت قناة CNN استطلاعاً للرأي ما بين الأمريكيين حيال موقفهم، دون توضيح آلية الاستطلاع المتبعة إلّا أنها تحمل نتائج تجميلية للواقع بطبيعة الحال، حيث أظهر ما نسبته 20% من الأمريكيين يرون أن بلادهم تقدم مساعدات كثيرة لأوكرانيا، بازدياد 13% عن استطلاع مماثل جرى في شهر آذار، وكان المعارضون حينذاك 7% فقط... ما يهمنا منه ليس الأرقام المئوية الواردة والمشكوك بدقتها، إنما الاعتراف، وعدم قدرة وسائل الإعلام هذه على تجاوز الحقيقة القائلة بوجود انزياح متزايد في مزاج الأمريكيين نحو معارضة التدخل الأمريكي، وتمويل بلادهم لأوكرانيا، وحقيقة الأمر، أن أغلبية الأمريكيين يرفضون هذا التدخل ويتخوفون جدياً من صراع نووي.
على أية حال، يعتبر هذا الانزياح موضوعياً، فحتى وإن وثق كافة الأمريكيين بحكومتهم وقراراتها، وحتى وإن افترضنا أن جميعهم يقفون بجانب الحكومة الأوكرانية، إلّا أن نسب التضخم وارتفاع أسعار الطاقة والسلع وازدياد معدلات البطالة وغيرها من المشاكل الاقتصادية المتفاقمة بالداخل الأمريكي، تتناقض مع تمويل بلادهم الضخم لصراع عسكري في قارة أخرى، حيث تفيد آخر التقارير الرسمية نقلاً عن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، أن الولايات المتحدة الأمريكية قد قدمت حتى الآن 18 مليار دولار لأوكرانيا منذ كانون الثاني من عام 2021، معلناً في الوقت نفسه عن دعم جديد بـ 725 مليون دولار.

إما الجمهوريون، أو؟

تتزايد هذه التباينات بالمواقف، سواء ما بين الديمقراطيين والجمهوريين، أو ما بين الجمهوريين أنفسهم، مع اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية النصفية، والتي قد تتغير بعدها الأوزان ضمن مجلسي النواب والشيوخ الأمريكيين، بما يحمله ذلك من تأثير على القرارات المتخذة فيما يتعلق بالملف الأوكراني فضلاً عن غيره، كما أنها ستحدد سمة عامة وأولية لما قد يجري في انتخابات 2024 الرئاسية، والتي أعلن دونالد ترامب مؤخراً عن احتمالية مشاركته بها.
ما ينبغي الإشارة إليه، والتأكيد عليه، أن الانقسام الأمريكي لا يتعلق بالحزبين التقليديين ديمقراطي وجمهوري، وهزلية تداول السلطة «ديمقراطياً» فيما بينهما، حيث أنهما كانا ولا يزالان وجهان لعملة واحدة، ويؤديان دوراً واحداً بإيهام الأمريكيين باختيار قادتهم، بل إن التناقض بالمواقف حيال شتى المسائل داخل الحزب الجمهوري– ماكارثي ومكونيل مثالاً- يؤكد هذا الأمر، ويوضح أن الانقسام يتجاوز الحزبين، وأن طرفي الانقسام الأمريكي يمتلكون ممثلين عنهم في الحزبين أيضاً.
توضيح هذه المسألة يعد ضرورياً لتحليل التطورات الأمريكية مستقبلاً، فتيار الانكفاء ممثلاً بترامب، كان يراهن سابقاً، ولا يزال يحاول، على تأثيره داخل الحزب الجمهوري، وقدرة الأخير على المناورة والمواجهة، إلا أن ضعفه سابقاً، كما جرى في انتخابات 2020 وما سبقها وتلاها من قضايا ومحاكمات وجهت لترامب دون دعم حقيقي كامل من الجمهوريين، قد فتح احتمالية إنشاء حزب جديد بقيادة تيار الانكفاء، وكان قد أعلن ترامب عن ذلك صراحةً خلال العام الماضي. وعليه، إن لم يتمكن الجمهوريون من دخول مجلسي النواب والشيوخ بنسب أعلى خلال الانتخابات النصفية القادمة، فستتزايد احتمالات إنشاء مثل هذا الحزب وخوضه صراعاً لدخول البيت الأبيض في 2024.
بمعنى آخر، باتت مسألة تراجع الدعم الأمريكي لأوكرانيا مسألة وقت لا أكثر، فالتغيرات داخل الولايات المتحدة تجاه هذا الأمر قد بدأت مفاعيلها عملياً، وبشكل موضوعي لا يمتلك رفاهية الهزلية الديمقراطية للحزبين، ومتجاوزة طموحات وقدرات تيار الحرب نفسه ممثلاً بإدارة بايدن الحالية، لدرجة تفتح احتمالات مواجهات ميدانية حقيقية، ما لم يوقف هذا التيار مصاريفه المهولة، إن لم تكن هذه المواجهات من تيار الانكفاء وجمهوره بشكل خاص، فمن الأمريكيين أنفسهم كشعب عموماً مع تراجع وتدهور أوضاعهم الاقتصادية والمعاشية، ليجد شعار ترامب السابق «أمريكا أولاً» آذاناً صاغية أكثر له.

انتصار روسي

تظهر هذه التطورات، والتوقعات منها: انتصار التكتيك الروسي في الملف الأوكراني، وبات هذا الامر يُفسر ويتضح بشكل عملي وملموس عوضاً عن النظري السابق، والذي لم يكن يسمع تحت صوت القتال، حيث لم تضع روسيا كامل وزنها العسكري في أوكرانيا، رغم أنها تواجه الغرب كاملاً فيها، وكان الجزء الأكبر من صراعها مرتبط مع عامل الوقت بالتراجع الأمريكي والأوروبي جراء أزماتهم وانقساماتهم الداخلية، وما سينتج عنها. وحقيقة الأمر، أن لا فرصة أمام تيار الحرب الأمريكي مع حلفائه الأوروبيين للفوز بالمعركة بأي شكلٍ كان، بل إن أفضل سيناريوهاتها هي خسارة الجميع عبر حرب نووية، الأمر الذي– ورغم جديته وخطورته– يعد غير واقعي في عالم اليوم، وتكاد تكون احتمالاته تشارف الصفر، ما لم يحصل أي ضرب من الجنون الأمريكي، فهكذا خسارة ستعني نهاية وجودهم البيولوجي، وليس الاقتصادي أو السياسي فحسب، أي إنها خطوة انتحارية بالمعنى الحرفي للكلمة. إن أفضل ما قد تستطيع الولايات المتحدة فعله الآن– ويسعى تيار الانكفاء بقيادة ترامب أو ممثل آخر له على تنفيذه- هو الحفاظ على وحدتها، وتمتين ما أمكن من اقتصادها داخلياً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1093