حول «ركوع» ماكرون للجزائر

حول «ركوع» ماكرون للجزائر

يحاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون- مدفوعاً بالتناقضات الداخلية سواء في بلاده أو في أوروبا ومجمل الفضاء الغربي المتأزم- تحسين وتمتين علاقات باريس مع الجزائر، ومنها مع مجمل القارة الإفريقية خلال زيارته الأخيرة لها، لكن ما الغاية خلف هذه الخطوات، وهل باتت باريس حريصة على صداقة الجزائر وأمينة لها حقاً؟

مفاصل عامة سبقت الزيارة

ذهب ماكرون بزيارة إلى الجزائر في 25 آب، استمرت لثلاثة أيام، بهدف عام يتمثل بإعادة بناء وإطلاق العلاقات الثنائية بين البلدين، لكن وقبل مناقشة الزيارة وما تخللها، لابد من الإضاءة على بعض المفاصل العامة التي سبقتها:
أولاً: سبقت الزيارة عدة أشهر من محاولة ماكرون تلطيف إساءته السابقة للتاريخ الجزائري، سواء المتعلقة بحقبة الاستعمار الفرنسي، أو ما قبلها خلال الحقبة العثمانية/ التركية، والتي حملت بدورها أيضاً إساءة لتركيا في الحاضر، ومحاولة لصنع خلاف تركي- جزائري، وما نتج عن ذلك من تدهور في العلاقات الجزائرية- الفرنسية.
ثانياً: جرت هذه المشكلة بين البلدين بالتوازي مع بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا وبداية تدهور العلاقات الروسية- الأوروبية، وما نتج عن ذلك من تأثيرات سلبية سواء اقتصادية أو سياسية أو عسكرية على أوروبا، أي قبل أن يدرك ماكرون أهمية الجزائر لبلاده ولأوروبا في المرحلة اللاحقة لإساءته.
ثالثاً: تطور علاقات إيجابية بشكل متسارع بين الجزائر بشكل خاص أو إفريقيا بشكل عام مع كل من وروسيا والصين، والتي من وجهة النظر الفرنسية والغربية لا بد من مواجهتها بطريقة ما.

ماكرون لا يريد الغاز...؟

قبيل مغادرته أفاد ماكرون بأن الغاز الجزائري ليس موضوع الزيارة، مشيراً من جهة إلى أن فرنسا كانت أساساً أقل اعتماداً على الغاز الروسي بالمقارنة مع الدول الأوروبية الأخرى، وذكّر من جهة أخرى إلى «ضعف أهمية الغاز في مزيج الطاقة» في فرنسا.
إذا ما اكتفينا بأقوال ماكرون الحرفية نجده يقول حقائق بطبيعة الحال، لكن ليس الحقيقة الكاملة، فالإشارة إلى أن فرنسا لا تستورد كميات الغاز الروسية نفسها بالاستناد إلى الاتفاقات الثنائية بينها وبين روسيا، لا يعني أنها لم تكن تستهلك الغاز الروسي بوصفها دولة ثالثة تستورده من دولة أخرى وسيطة بينهما في إطار الاتحاد الأوروبي، وشراكته واتفاقات الطاقة ضمنه، وعلى الجانب الآخر فإن ما تعاني منه أوروبا، وفرنسا، هي أزمة طاقة عموماً، وليست أزمة غاز فقط، وعليه فإن القول بأن مادة الغاز ضعيفة في مزيج الطاقة في فرنسا لا يعني عدم حاجتها إليه اليوم، بل الحقيقة أنه وضمن أزمة طاقة من هذا النوع فإن فرنسا بحاجة لكل المواد، ولأية مواد طاقة بما فيها الغاز، بالمثل من جيرانها الأوروبيين وبنفس الدرجة.
فعلى الرغم من ادعائه بأن «الغاز الجزائري ليس موضوع الزيارة» أشاد ماكرون خلال زيارته بمساهمة الجزائر بتنويع مصادر إمدادات الغاز إلى أوروبا بعد زيادتها صادراتها إلى إيطاليا– ومنها إلى أوروبا وفرنسا بطبيعة الحال– كما أنه تلقى وعداً شفهياً من الجزائريين بدراسة زيادة إمدادات الغاز المباشرة لفرنسا.
كما لا يمكن تناسي موقع فرنسا ضمن الفضاء الغربي، ومطامعه ومصالحه وسياساته عموماً، فبالمثل من حقيقة أن انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، أو منطقة الشرق الأوسط، أو غيرها.. وعدم قدرتها على تنفيذ أية عمليات عسكرية مثلما كان عليه الحال قبل عقدٍ وأكثر، لا يغير من طبيعتها العدوانية، فإن انسحاب القوات العسكرية الفرنسية من مالي (إفريقيا) وتغيّر لهجتها تجاه الجزائر لا يغيّر من طبيعتها العدوانية أيضاً، وضمن المعادلات الأخيرة بتطور العلاقات الجزائرية الروسية والإفريقية الروسية، يمكن قراءة الخطوات الفرنسية تجاه الجزائر بأنها محاولة للتأثير على التقارب أو تحقيق توازن ما معه، أو بأبسط الأشكال عدم ترك الساحة خالية تماماً لروسيا والصين في المنطقة الإفريقية، أي أن فرنسا ملتزمة في هذا السياق بالمهمة الغربية عموماً والأمريكية خصوصاً.
وضمن هذا السياق، أكد ماكرون خلال زيارته أهمية الجزائر إفريقياً، وكان قد قيل قبيل بدء زيارته أنه ستتم مناقشة «النفوذ الروسي المتزايد في إفريقيا» دون أن تصدر في هذا الصدد أية تصريحات خلال الزيارة نفسها تفيد بمناقشة أو عدم مناقشة هذا الموضوع.
أما بالنسبة لموضوع الزيارة الرسمي، فيذكر أنها تزامنت مع الذكرى الـ 60 لانتهاء الحرب وإعلان استقلال الجزائر في عام 1962، واختيار هذا التوقيت تحديداً لا يعني احتراماً من باريس لهذه الذكرى، وإنما لاستثارة المشاعر لأجلها في كل من البلدين، وكلٍ على طريقته، فبينما يشغل هذا الموضوع موقفاً تاريخياً ووطنياً عميقاً وواسعاً بالنسبة للجزائريين، تستغله فرنسا/ ماكرون اليوم لأجندتها الخاصة وكبوابة لتحقيق بعض الأهداف العامة سالفة الذكر.
فحتى اللحظة، لم يقدم ماكرون أي اعتذار رسمي للجزائر عن الاستعمار الفرنسي، وتم الاتفاق على تشكيل لجنة مشتركة مشكلة من مؤرخين من البلدين من أجل دراسة الأرشيف حول الاستعمار وحرب الاستقلال، وعلى الرغم من أن الأمر يبدو من حيث الشكل مماطلة وتسويفاً من الزاوية الفرنسية، إلا أنه ذي جدية مطلقة من قبل الجزائريين، وتعتبر هذه المواقف الفرنسية الأخيرة ومجيء ماكرون لهذا الغرض تقدماً هاماً بهذا الإطار، سيبنى عليه ويتطور لاحقاً، وقد بدأت تظهر عليه ردود فعل أولية في الداخل الفرنسي، ومنها ما يتعلق بأبناء وأحفاد المحاربين الفرنسيين القدامى.
وقد وقع ماكرون مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إعلان اتفاق شراكة متجددة، واتفقا على إنشاء مجلس أعلى للتعاون، وعلى أعلى المستويات من أجل حل جميع الملفات العالقة بين البلدين.

الركوع بفعل الضرورة التاريخية

ما من عاقلٍ يخطئ بالنوايا والعقلية الفرنسية الاستعمارية المبطنة والمستمرة حتى اليوم تجاه الجزائر أو إفريقيا، وانسحاب القوات الفرنسية من مالي أو ملاطفة ماكرون للجزائر لا تعني أدنى تغيّرٍ بهذه العقلية، وإنما تشير إلى مدى الضعف الذي وصلت إليه فرنسا، وحجم التناقضات والأزمات الجارية فيها أو في أوروبا، مما يفرض عليها هذه الإجراءات والمواقف المواربة، أو كما وصف أحد النواب الفرنسيون- سيباستيان تشينو- زيارة ماكرون إلى لجزائر بالـ «ركوع» أمامها.
وبالمثل مما قيل حول الولايات المتحدة- أنه ما لم تستطع تحقيقه بفترات ذروة قوتها لن تستطيع تحقيقه الآن بفترات تراجعها وانهيارها- يسري على فرنسا، ليكون المسار الذي تمضي به موضوعياً الآن يحمل طبيعة تاريخية تتجاوز ماكرون، أو أيّ رئيس فرنسي كان غيره، وسيبقى سلوك فرنسا بهذا الشكل الموارب إلى أن يحدث تغييراً ما فيها يجعل من تقاربها مع الجزائر، واعتذارها عن استعمارها لها، فعلاً صادقاً في المستقبل.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1086