هزيمة أوروبية في مالي فهل تكون فقط البداية؟
ما يجري في مالي يعد تطوراً لافتاً للأحداث في كل القارة الإفريقية، ويمكن أن يكون الانسحاب الفرنسي مؤخراً منها بداية لتغيير خريطة النفوذ في إفريقيا، ما يعطي شعوبها فرصة بمستقبل مختلف وأكثر عدالةً.
في أواسط حَزِيران الماضي، انسحب آخر الجنود الفرنسيين من مالي بناءً على قرار قيادة عملية «برغان» في إنهاء وجود القوات الفرنسية في البلد الإفريقي. وعلى الرغم كون هذا الانسحاب هزيمة سياسية وعسكرية إلا أن الرئيس الفرنسي حاول الالتفاف على ذلك. وأصدرت الرئاسة بياناً قالت فيه: «هذا ويحيي رئيس الجمهورية الفرنسية، إيمانويل ماكرون، نجاح مناورة الانسحاب العملياتي واللوجستي هذا من مالي، التي نفذتها جيوش فرنسا وفق الجدول الزمني المعلن، دون وقف قتال الجماعات الإرهابية وزيادة مساهمتها بشكل كبير في تأمين البلاد» معللاً الانسحاب بالظروف السياسية والعملياتية، التي لم تعد كافية لمواصلة العمل في مالي.
فماذا يجري في منطقة الساحل الإفريقية؟ وهل اقترب موعد خروج القوات الغربية منها؟
من ليبيا بدأت الحكاية
كان للتدخل العسكري الغربي في ليبيا وإسقاط النظام وتدمير الدولة الدور الرئيسي في توتر منطقة الساحل الإفريقية، حيث أدى التدخل العسكري إلى تغير موازيين القِوَى في منطقة الصحراء والساحل الممتدة من بوركينا فاسو، إلى تشاد، ثم مالي، فموريتانيا والنيجر، ولا يخفى على أحد الدور والتمويل الليبي في المنطقة، الذي ساهم وخلق نوعاً من التوازن في المنطقة، سمح لها بسنوات من الهدوء عقب مجموعة من الحروب الأهلية. لكن بعد سقوط نظام معمر القذافي في ليبيا عادت مجموعات الطوارق الممولة من ليبيا إلى تشاد ومالي، التي تدفق إليها السلاح والمقاتلين بأعداد كبيرة، فدخلت حركة تحرير أزواد- التي يشكل الطوارق عمادها- في حرب مع الحكومة المالية، وأعلنت استقلال شمال مالي عن الدولة المركزية، وكنتيجة للفوضى التي رافقت الغزو الغربي لليبيا، استباحت المجموعات المسماة «التنظيمات الجهادية» المنطقة، وتوسعت بحكم الفراغ السياسي والأمني الناتج.
وفي 26 أيار 2012، أبرمت هذه الحركة اتفاقاً مع حركة أنصار الدِّين، نص على تطبيق الشريعة الإسلامية في شمال مالي، مع اندماج أنصار الدِّين في «دولة أزواد» المعلنة في نيسان من العام نفسه.
تراجع نفوذ الحركة في شمال مالي عام 2012 بعد أن دخلت في صراع دموي مع الحركات الإسلامية المسلحة، وخصوصاً حركة التوحيد والجهاد، وهو الصراع الذي قاد إلى إخراج مقاتلي الحركة من أغلب مناطق الشمال المالي، ككيدال وتمبكتو وغاو التي تعد عاصمة للأزواديين، طلبت على إثرها السلطات المالية من فرنسا التدخل عسكرياً لمساعدتها.
هل تحقق الهدف المعلن!
هدف عملية برخان هو «تحويل القوات الفرنسية في مالي إلى ركيزة أساسية لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل» حسب توصيف المسؤولين الفرنسيين، ووفقاً لوزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، فإن الهدف الرئيسي من عملية برخان هو «مكافحة الإرهاب» ويضيف لودريان أهدافاً فرعية، مثل: «منع الطريق السريع» في منطقة الساحل التي تستخدمه الجماعات الجهادية بين ليبيا والمحيط الأطلسي، التي يعد مركزاً أساسياً لنشاطها، ويهدد الأمن في المنطقة والعالم. والخطير في التدخل الفرنسي في دول الساحل، هو أنها لا تسمح فعلياً لجيوش المنطقة في المشاركة في العمليات العسكرية منذ العام 2014، وهو العام الذي دخلت فيه القوات الفرنسية، ومنذ ذلك التاريخ خسرت مالي ثلثي أراضيها، وتفاقمت الأعمال الإرهابية في المنطقة وعبر 6 دول من الساحل هي: مالي وبوركينا فاسو والنيجر ونيجيريا والكاميرون وتشاد، تتوزع فيها 10 فروع إرهابية، التي تصدرت بها القارة دول العالم، بوصفها القارة التي تحتوي أكبر عدد من التنظيمات الإرهابية والجماعات المتفرعة عنها في العالم!
الهدف الخفي
توقيت التدخل العسكري والسياسي الغربي في ليبيا ومنطقة الصحراء والساحل جاء متزامناً مع تصاعد النشاط الصيني في غرب إفريقيا، وكان أكثر ما يغيظ الغرب هو التقدم السريع لقطار التنمية الصينية في القارة السمراء، فكل ما نسمعه في الإعلام الغربي عن مصائد الديون الإفريقية والتمويل الصيني ليس إلّا كبتاً لآلام الغرب، الذي يريد لشركات التعدين والتمويل خاصته موقعاً في إفريقيا، حتى لو كان هذا الموقع تحت حماية المجموعات الإرهابية، أي إن الغرب أراد إفريقيا لنفسه لغرض وحيد، وهو نهبها وقمع شعوبها والتنكيل بأطفالها، ولهذا تنتشر في غرب القارة أكثر المجموعات الإرهابية دموية، والكثير من القواعد الأمريكية والغربية. ولمن غرائب الأمور أن تتقاطع دائماً مصالح القوى الغربية والاستعمارية مع مراكز نشاط المجموعات الإرهابية في أصقاع الأرض، يتخادمان كما لو كانا جسماً واحداً.
طلب الدعم من الصين
عُقدت في العام الماضي- في دكار عاصمة السنغال- القمة الإفريقية الصينية، وكان أهم ما رافقها، تصريحات وزيرة الخارجية السنغالية إيساتا تال سال، التي كانت بمثابة طلب للنجدة موجه إلى الصين، بغد فقدان الأمل بدور أوروبي فعال في القضاء على الإرهاب في غرب القارة. وعبّرت الوزيرة في منتدى التعاون الصيني الإفريقي في داكار، عن أملها أن تقدم بكين الدعم لمكافحة انعدام الأمن في منطقة الساحل، حيث تزعزع أنشطة جماعات جهادية استقرار دول عدة. وفي حديثها للصحافة بعد اجتماع مع نظيرها الصيني وانغ يي، قالت سال: إنها تأمل في أن تكون الصين «صوتاً قوياً» في الحرب ضد الإرهاب في منطقة الساحل. وأضافت «نود أن يكون صوت الصين، بالنظر إلى نفوذها، صوتاً قوياً لدعم السنغال، وجميع الدول المعنية بمشكلة انعدام الأمن في منطقة الساحل». وشددت الوزيرة على أن جيوش المنطقة المنتشرة في منطقة الساحل بحاجة إلى «المزيد من الوسائل القانونية لتكون قادرة على محاربة الإرهابيين».
الاستجابة الروسية العاجلة
بعد وصول المجلس العسكري في مالي إلى السلطة إثر انقلاب ناعم في العام الماضي، بعد سلسلة من الحوادث الشعبية الناتجة عن تأزم الوضع الأمني والمعاشي في البلاد، وجهت السلطة الجديدة طلباً إلى روسيا بغرض التعاون المشترك في مكافحة الإرهاب، فأرسلت الأخيرة مئات المدربين وأسلحة متوسطة وثقيلة إلى مالي لدعم عملية مكافحة الإرهاب، التي وصفها وزير الدفاع في مالي بأنها مختلفة عن عشر سنيين من التعاون مع دول أخرى، فقد حقق التعاون نتائج ملحوظة، ووصف الوزير روسيا بأنها الشريك الاستراتيجي لبلاده، موضحاً: «تعد روسيا شريكاً استراتيجياً هاماً منذ حصول مالي على الاستقلال. وتتمسك روسيا بسياسة التعاون العسكري الهادف إلى حماية مصالح مالي». وأعلنت وزارة خارجية مالي، سابقاً، أن الطائرات التي تقدمها روسيا، سمحت لمالي بتغيير استراتيجية معاركها ضد الإرهابيين، مضيفة أن موسكو تقدم المساعدة الفنية والخبراء للبلاد، وأشارت وكالة نوفوستي أن روسيا سلمت في نوفمبر عام 2021 أربع مروحيات نقل عسكرية من طراز «مي-171» لمالي. وأفادت وسائل إعلام في آب الجاري بحصول مالي على عدد من الطائرات والمروحيات العسكرية من روسيا، وبينها المقاتلات من طراز «L-39» و«سو-25» وكذلك المروحيات الحربية من طراز «مي-24 بي» و«مي-8»، وطائرات النقل التكتيكية من طراز «CASA C-295».».
فرنسا، حامية الإرهاب في إفريقيا، ومستخدمه الأول، تطرد من أول دول الساحل الإفريقي، فهل سيكون «الحبل على الجرار»؟ هل تستطيع فرنسا حماية إرهابيّها في إفريقيا طويلاً، خاصة بعد طلب مالي عقد جلسة لمجلس الأمن بعد توجيهها تهمة لفرنسا باستخدام طائرات من دون طيار لكشف مواقع الجيش المالي، وإعطائها للإرهابيين بحسب وصفه؟ هل سيكون التدخل الصيني الروسي بالبضائع والطاقة والأمن مخرجاً لغرب القارة من بعد قرونٍ من الاستعمار بشكليه القديم والحديث؟ هذا ما تتمناه شعوب تلك القارة، وهذا هو السيناريو الأقرب للواقع في ظل المناخ الدولي الحالي...
فلاشة: فرنسا حامية الإرهاب في إفريقيا ومستخدمه الأول تطرد من أول دول الساحل الإفريقي فهل سيكون الحبل على الجرار
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1084