كيسنجر يعلن: خيارات واشنطن أصبحت محدودةً

كيسنجر يعلن: خيارات واشنطن أصبحت محدودةً

نستطيع القول: إن الأسابيع الماضية جعلت «مسألة تايوان» في الواجهة وضمن إطار اهتمام الجميع، وتحديداً بعد إطلاق الصين للمناورات العسكرية الأولى من نوعها، التي شدّت أنظار الكوكب، وحبست الأنفاس ترقباً لتطورات المشهد. وهو ما دفع هنري كيسنجر للخروج مجدداُ ويحذر من تهوّر صانعي السياسات الأمريكيين!

تدرك تايوان- التي أطلقت من جانبها مناورات خجولة- أنها أصبحت في أحد أخطر النُّقَط الساخنة، وأن ما جرى حتى اللحظة، وما سيتبعه كفيلٌ بفرض فاتورة سياسية كبيرة على قيادتها، وخصوصاً أن النخبة السياسية المسيطرة في تايوان اعتمدت تاريخياً على الدعم الغربي الذي تحوّل في هذه اللحظة بالذات إلى مقتل، فمصير هذه المغامرة السياسية بات يقترب من لحظة الحسم، ولم يعد هناك الكثير من الشكوك حول جديّة الصين في توحيد أراضيها. فالمناورات العسكرية باتت بشكلٍ معلن إجراءً روتينياً دورياً تتجاوز فيه الصين «خط الوسط» الأمريكي، وتفرض شروطها بدلاً من السكوت عن الدعم الغربي لتايوان.

لماذا كل هذا الضجيج؟!

تقوم الولايات المتحدة بتنفيذ مئة تدريب عسكري في المياه المجاورة للصين سنوياً! لكن لم يسبق لوسائل الإعلام أن انشغلت في تغطية هذه الأنشطة العسكرية المشبوهة، وذلك مع أنّها تجري تحت عنوانٍ معلن، وهو تطويق الصين، وحشد خصومها في المنطقة ضمن تحالف عسكري مع الولايات المتحدة. لكن ما أن انطلق الجيش الصيني في مناورات على شواطئه وضمن مياهه الإقليمية المعترف بها دولياً، حتى تحّول الحدث ليصبح الأكثر بروزاً. والحق يقال: إن الأنشطة العسكرية الصينية التي تجري مؤخراً شكّلت تطوراً نوعياً انتهى فيه عهد طويل اضطرت فيه بكين لتحمّل تطاول واشنطن على سيادتها، وما يجري الآن بمثابة بداية لمرحلة انتهاء الهيمنة الأمريكية في هذه المنطقة الاستراتيجية، ويعني أيضاً انتهاء عصر «المساومات الكبرى» بين بكين وواشنطن. ففي الوقت الذي مارست فيه الولايات المتحدة سياسة «الغموض الاستراتيجي» حول تايوان، قابلت الصين هذه السياسية بـ «الصبر الاستراتيجي». وخطوة واشنطن الاستفزازية في الجزيرة شكّلت سبباً كافياً بالنسبة لبكين، لانتهاج سياسية جديدة تطابق «نفوذ صبرها» ما يعني: تحدٍ لواشنطن ودفعها نحو إنهاء «غموضها» أيضاً.

الكتاب الأبيض

أصدر مكتب شؤون تايوان التابع لمجلس الدولة والمكتب الإعلامي لمجلس الدولة الصيني «كتاباً أبيضَ» بعنوان «قضية تايوان وتوحيد الصين في العصر الجديد»، هذه الوثيقة الجديدة الصادرة في 10 آب الجاري هي الأولى من نوعها منذ صدور آخر وثيقتين حول هذه المسألة في عام 1993 و2000.
جاءت هذه الوثيقة الجديدة بمثابة قراءة بحثية وسياسية موسعة في تاريخ المسألة، والحلول المطروحة لتسويتها، ويمكن الرجوع إلى الكثير من المفاصل التاريخية التي جرى تثبيتها في الصفحات الكثيرة «للكتاب الأبيض» الجديد، الذي انطلق منذ الحرب العالمية الثانية ليعرّج على الحقبة التي تلتها. المثير للانتباه في هذا العرض هو أن توحيد البر الصيني مع تايوان كان دائماً إحدى القضايا الوطنية الأكثر محورية في تاريخ المجتمع الصيني، وأدرك الحزب الشيوعي الصيني أن موقف الصينيين من أية قوة سياسية يرتكز فيما يرتكز عليه على الموقف من توحيد البلد المقسم، بل إن المتابعين لهذه المسألة يتذكرون أن بعض القوى السياسية في تايوان كانت ترفع شعار التوحيد ذاته، لكن تحت راية الحكومة اليمينية التي استقرت في تايوان بعد قيام الثورة الصينية. أي: إن إعادة توحيد البلد المقسم نقطة ثابتة في أجندة الشعب الصيني، ولا يمكن القفز فوقها.

الخِيار العسكري مطروح ولكن!

قد يكون عدم استبعاد الصين لاستخدام القوة العسكرية في مواجهة أية نزعة انفصالية في الجزيرة هي النقطة التي أثارت حولها الكثير من التكهنات، التي شكّلت إحدى ملامح نفاذ «الصبر الصيني». وهذا أمرٌ طبيعي، وخصوصاً أن الصين جادة في مسألة اللجوء للقوة العسكرية إذا فرض الظرف ذلك، وهو تحديداً ما حاول الجيش الصيني إثباته في الأيام الماضية، وأظهر كفاءة عالية في تنفيذه، مما أربك الولايات المتحدة ربما أكثر من تايوان نفسها. لكن ما يثير الانتباه حقاً هو أن «الكتاب الأبيض» الذي تمسّك بالحل القديم ذاته الذي طرح تحت شعار «بلدٌ واحد ونظامان سياسيان»، الذي يعطي تايوان استقلالية عالية نسبياً، ولكنه يحصر قضايا سياسية أساسية بيد الحكومة المركزية، مثل: تحديد السمت العام للسياسة الخارجية لتايوان. لكن الوثيقة كانت مليئة بالإغراءات والرسائل التشجيعية، لا إلى قادة تايوان، بل إلى قاطني الجزيرة، وهو ما تستهدفه بكين تحديداً، والذين وجدوا أنفسهم منعزلين عن بلدهم الأم. فالمناورات العسكرية الأخيرة برهنت أن الدور الكبير الذي تلعبه تايوان في الاقتصاد العالمي، وتحديداً في تصنيع الرقائق الإلكترونية، لا يمكن أن يستمر بمعزل عن الصين، وبرهن أيضاً أن هذه الجزيرة لن تستطيع البقاء في الموقع المعادي لبكين، إن كانت تبحث عن مصالحها فعلاً، فالصين شكّلت إطاراً مكملاً للحياة الاقتصادية في تايوان، وهو ما يمكن أن يتحوّل إذا ما رافقه ضغط عسكري وسياسي إلى سبب كافٍ لدفع قاطني تايوان الصينيين أكثر نحو بلدهم الأم.

كيسنجر من جديد!

غاب هنري كيسنجر لفترة زمنية طويلة عن ساحة التأثير بالقرار السياسي الأمريكي، لكن وتيرة ظهوره على الساحة السياسية باتت أكثر تسارعاً في هذه اللحظة التاريخية، وأصبحت تصريحاته- التي يراها البعض مثيرة للجدل- تؤشر بوضوح إلى حجم الانقسام الأمريكي، فكيسنجر يعبّر عن منهج محدد في السياسة الخارجية الأمريكية. ويرتبط باسمه خرق استراتيجي نوعي نجحت فيه واشنطن بفصل الصين عن روسيا، ما مهد الطريق أمامها لكسر منظومة الدول الاشتراكية، والهيمنة على العالم، بعد أن جلست على خرائب دول الاتحاد السوفييتي السابق ونهبت ثرواته. لكن السياسة الخارجية الأمريكية اليوم تثير قلق كثيرين في واشنطن، والذين يدفعون كيسنجر إلى الواجهة للتذكير بدروس الماضي. فالتصريحات الأخيرة التي أدلى بها وزير الخارجية الأمريكي السابق إلى «وول ستريت جورنال» وضحّت حجم المأزق الأمريكي، فقال كسينجر في تصريحاته: إن عالم اليوم يقترب من «حالة شديد الْخَطَر من اختلال التوازن» ووضح أن الولايات المتحدة: «على حافَة الحرب مع روسيا والصين بشأن القضايا التي خلقتها جزئياً، دون أية رؤية لكيفية التعامل مع تطوراتها، أو ما الذي يمكن أن تؤدي إليه هذه التطورات». ليخرج الدبلوماسي الشهير باستنتاج نهائي، أن «الولايات المتحدة لم تعد في موقعٍ يسمح لها بالوقوف مع الصين أو روسيا ضد الطرف الآخر» وإن كل ما يستطيع أصحاب القرار في واشنطن فعله بعد توريط أنفسهم على جبهتين في الوقت نفسه «ألّا يؤججوا التوترات، ويخلقوا خيارات جديدة».
المشكلة، هي أن الولايات المتحدة تتمسك بتأجيج الموقف، ولا تبدي أية بوادر للتراجع على الجبهتين الأوكرانية والتايوانية، وهو ما سيضعها أمام ضربات موجعة من روسيا والصين معاً، وتحديداً بعد أن تجرأت واشنطن بالمساس بمسائل الأمن الوطني الحساسة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1083