الأزمات السياسية العراقية تتكرر والمطلوب: التغيير..

الأزمات السياسية العراقية تتكرر والمطلوب: التغيير..

يدور العراق في حلقة مفرغة من الصراعات والأزمات بين قواه السياسية في الداخل حول تشكيل الحكومة ورئاستها منذ سنينٍ تعود جذورها إلى احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية في 2003 وما نتج عن ذلك من دستور ومنظومة محاصصة تُسيّر البلاد، وما يجري مؤخراً من خلافات بين القوى لا يختلف بجوهره عن أي من خلافاتها السابقة، بل هو تكرار للتكرار نفسه بأسماء جديدة وقوى مختلفة عند كل عملية انتخابات وتشكيل للحكومة.

على الرغم من حسن نوايا البعض من القوى السياسية العراقية، إلا أن السير والعمل ضمن أطر المنظومة نفسها ودستورها يفرض وضعها بنفس الصف مع القوى الأخرى، حيث لا تختلف ضمنها القوى الماضية للعمل من أجل مصلحة البلاد عن تلك الماضية بالعمل لمصلحة جيوبها، ضمن إطار «المحاصصة» وطبيعة المواجهات الجارية، لتصبح مصلحة البلاد ورقة مساومة مساوية لأوراق الآخرين من الناهبين، وذلك فضلاً عن وجود الثالوث «شيعي سني كردي» الموجود في المنظومة ودستورها، بما يعيق العمل نحو «وحدة وطنية» حقيقية لمصلحة العراقيين شعباً وأرضاً.

الأزمة الأخيرة وتطوراتها

لم تكن الأزمة السياسية الأخيرة مفاجئة لأحد، والتي بدأت ملامحها مع فوز التيار الصدري بالانتخابات البرلمانية العراقية في 2021، لتشن القوى السياسية الأخرى وعلى رأسها «الإطار التنسيقي» حملة هجوم على الانتخابات وشرعيتها وصحّة نتائجها، مما عرقل خطوات تشكيل حكومة «أغلبية وطنية» كان ينادي بها التيار الصدري بعد عقد حوار سياسي.
ومع استمرار توتر الأوضاع، دعا زعيم التيار الصدري- مقتدى الصدر- كتلته البرلمانية في 12 حزيران إلى الاستقالة «تضحية من أجل الوطن والشعب لتخليصه من المصير المجهول» على حدّ قوله، وتحوّلها إلى مقاعد المعارضة «وإفساح المجال أمام الكتل البرلمانية الأخرى لتشكيل حكومة» ووافقت رئاسة البرلمان العراقي على استقالة الكتلة، وقد أثار هذا الأمر ردود فعل عديدة لدى العراقيين سواء من جمهور التيار الصدري أو غيره ممن كانوا يتأملون أن تتمكن القوى السياسية من تشكيل الحكومة.
مع استقالة الكتلة الصدرية، بات يمتلك «الإطار التنسيقي» أغلبية المقاعد البرلمانية، إلا أنه لم يتلق رسالة التيار الصدري بالشكل المراد منها: تنازل التيار الصدري بإرادته من أجل مصلحة البلاد، بمقابل تنازل من قبل القوى الأخرى أيضاً للهدف نفسه. بل اعتبر ذلك خطأ بمثابة نصر له بعد ضغوطه على التيار الصدري، وبدأ يستأثر بالبرلمان، ليعقد جلسات لوحده، ويخلص إلى ترشيح محمد شياع السوداني لرئاسة الحكومة، بوصفه مرشحاً معبراً عن كل الإطار وليس إحدى قواه فقط.
ليطلق هذا الأمر شرارة رد فعل لدى التيار الصدري بالتظاهرات والاعتصامات الكبيرة التي جرت في العاصمة بغداد إلى درجة دخول المتظاهرين إلى المنطقة الخضراء، التي تضم المقار الحكومية الأساسية في البلاد، واقتحام مجلس النواب وغيرها من الأحداث، رفضاً لترشيح السوداني، والذي يعني رفضاً لـ «الإطار التنسيقي» وما فعله بعد استقالة الكتلة الصدرية.

التيار الصدري والآخرون

يحاول التيار الصدري استمالة جميع القوى العراقية لعقد حوار سياسي تنتج عنه «حكومة اغلبية وطنية» بعيدة عن المحاصصة الطائفية، وتشكل هذه الخطوات الأخيرة له من الاستقالة إلى التظاهرات الكبيرة تكتيكاً مؤقتاً، برسائل عدة، أهمها: أن وزن التيار وتأثيره على العملية السياسية لا يقتصر على الوجود ضمن البرلمان نفسه ولا يقف عند مقاعده.
لكن لا يبدو حتى الآن أن القوى الأخرى تأخذ طلب وهدف الصدريين بعين الاعتبار حقاً، فبينما أظهر «الإطار التنسيقي» موقفه وهدفه بالتفرد بالعملية السياسية ضمن منطق المحاصصة نفسها، لدرجة دعوته جمهوره للتظاهر أيضاً بما يهدد بتفجير أزمة أكبر، طلب رئيس الحكومة المؤقتة مصطفى الكاظمي عدم إدخال حكومته ضمن الصراع الجاري داعياً للتهدئة، كما قامت بقية الشخصيات والقوى السياسية كرئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، وزعيم تيار الحكمة عمار الحكيم بالمثل من دعوات محايدة للتهدئة والحوار، بينما تستمر القوى في إقليم كردستان بالنأي بنفسها، وتصب اهتمامها على كيفية توزيع حصص الموارد وأرباحها.
وآخر ما حرر حتى لحظة كتابة المقال تراجع «الإطار التنسيقي» عن دعواته للتظاهر من أجل الحوار والحل السياسي على حد زعمه.

التغيير؟

من غير الواضح تماماً طبيعة خطة التيار الصدري واستراتيجيته بإلغاء منطق المحاصصة من البلاد، فمن الممكن قراءة سعيه بتشكيل حكومة أغلبية وطنية بوصفها خطوة أولى نحو تغيير الدستور، ومنه تغيير هذه المنظومة العراقية، إلا أن ذلك يفترض وجود أو إنماء نفس الهدف لدى القوى السياسية «التقليدية» الأخرى التي لاتزال تتحدث بالدفاع عن دستور البلاد والاستناد إليه في كل خطوة وإجراء سياسي تستخدمه كعصا لمصالحها الخاصة.
ومن زاوية أخرى، من الممكن قراءة السلوك الصدري بأنه يدفع نحو تعزيز الفرز ضمن هذه القوى على أساس مصلحة العراق وشعبه بالمجمل، وصولاً إلى فرط عقد التحالفات والائتلافات القائمة، وربما الأحزاب نفسها وانقسامها، وتشكيل جبهة وطنية متفقة على الهدف نفسه.
من جهة أخرى، تشكل الصفة الطائفية- الملازمة للتيار الصدري الذي تشكل على أساسها موضوعياً فيما مضى- تحدياً حقيقياً أمامه، ليتجاوزه في الحاضر أمام العراقيين تنفيذاً للهدف الوطني العام، والتي قد تفرض بدورها فرزاً ما بداخله أيضاً... فما تتطلبه المرحلة، والهدف- بالتغيير نحو دستور ونظام وطني غير تحاصصي- وجود قوة سياسية يتفق حولها العراقيون أنفسهم.
وذلك فضلاً أيضاً عن التحديات الإقليمية والدولية التي تدور في العراق أو حوله، وتؤثر عليه مباشرة وعلى رأسها العلاقات الاقتصادية والسياسية والعسكرية مع الغربيين والولايات الأمريكية تحديداً، والتوجه شرقاً وتطوير العلاقات مع روسيا والصين.
أي، وبشكل مختصر، تتطلب المرحلة الراهنة في العراق وجود برنامج سياسي حقيقي يوضح جملة من المواقف المعبرة عن مصلحة البلاد والعباد، ليلتف حوله العراقيون، ويدفعون به نحو التنفيذ العملي، أو ستبقى حلقة الأزمات السياسية تدور كما هي منتجةً توترات اقتصادية واجتماعية أكبر.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1081