قرار الرياض النهائي وتأثيراته على المنطقة

قرار الرياض النهائي وتأثيراته على المنطقة

يترافق اقتراب موعد وصول الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى الشرق الأوسط، مع مراجعات واسعة لأسباب هذه الزيارة والنتائج المتوقعة، وتحديداً في «محطة الرياض» التي تشكّل هدفها النهائي، فهل لا تزال الاحتمالات مفتوحة كما يقول البعض؟ أم أن النتائج الجوهرية حُسمت فعلاً؟

مع وصول الرئيس الأمريكي إلى الرياض ستثار في الإعلام عاصفة من الأخبار والتحليلات التي تكفل كثافتها خلطاً مدروساً للأوراق، ليصبح من الصعب على المراقب العادي الخروج بانطباع واضح حول نتائج هذه الزيارة، فتصبح «الخيبات»، في نظر البعض، «آفاقاً استراتيجية»، لذلك ينبغي تثبيت أهداف واشنطن من هذه الزيارة على مقياس نجاحها النهائي.

ماذا تريد واشنطن؟ ماذا تريد الرياض؟

قدّم بعض «المجتهدين والمطلعين» الأمريكيين قائمة بالأهداف المرجوة من هذه الزيارة، وعرضت «قاسيون» في عددٍ من المقالات قراءة في دوافعها الأساسية، والتي يمكن تلخيصها بما يلي: المطلوب من السعودية هو الابتعاد عن روسيا والصين، وأن تنفذ وتيسّر الرياض مطالب واشنطن في ضخ ملايين من براميل النفط الإضافية منها في المعروض العالمي، بهدف تقليل الآثار الكارثية لارتفاعات أسعار الطاقة على الدول الغربية، ويجري حديث كثيفٌ إضافي حول مسعى أمريكي لإيجاد إطار إقليمي ما يضم الكيان الصهيوني إلى جانب السعودية ودول أخرى في مواجهة إيران. وإذا أردنا تكثيف هذه المطالب نقول: إن واشنطن تريد من السعودية أن تلعب دوراً فاعلاً وأساسياً في جبهة إقليمية تستهدف في نهاية المطاف الصعود الروسي والصيني في العالم، وتأمل واشنطن بالحفاظ على الدور السعودي المحوري في تثبيت نظام البترودولار أطول فترة ممكنة، بوصفه التجسيد الفعلي للهيمنة الأمريكية على العالم، والتي ستنهار بشكلٍ متسارع مع انهياره.
أما بالنسبة للسعودية، فيجري الحديث عن موضوعين أساسيين، الأول هو: إعادة الاعتبار لولي العهد السعودي محمد بن سلمان، بعد أن مارست واشنطن حملة موسّعة ضده على خلفية مقتل الصحفي السعودي جمال الخاشقجي، مما فرض صعوبات أمام بن سلمان، وتحديداً في داخل البلاد وبين منافسيه. أما الموضوع الثاني الذي تكرره الرياض فهو: التزام واشنطن بأمن المنطقة، لا عبر التصريحات الفارغة وإيجاد مندوبين عنها، بل تصرّ- حسب ما يجري تداوله- على انخراط أمريكي مباشر، وتحديداً في المجالين العسكري والأمني.

المصلحة الصهيونية

في الوقت الذي تضخ فيه وسائل الإعلام الصهيونية أن «مصلحة اسرائيل» كانت محركاً أساسياً لهذه الزيارة، تنظر واشنطن إلى المسألة بشكلٍ مختلف، فترى أن إنشاء تكتل في المنطقة يأتمر بأمرها سيشكل حائط صد بوجه القوى الصاعدة، فتستغل الولايات المتحدة كل المخاوف الناشئة لدى الدول الخليجية من مستقبل إيران، وخصوصاً إذا ما جرى التوقيع على الاتفاق النووي، وتدفعهم للتطبيع مع الكيان الصهيوني في محاولة بائسة لتثبيت أقدام الكيان في الرمال العالمية المتحركة، وتنجح في هذه الحالة بالإبقاء على حالة من التوتر المتفجرة تكون كفيلة بإبقاء المنطقة تحت خطر مواجهة عسكرية شاملة في أية لحظة. فالحديث الذي يدور عن تفاهم حول نظام إخطار متبادل، غير ملزم، اتجاه الهجمات الجوية المحتملة من إيران (أو أية أشكال أخرى من التنسيق أو التحالف العسكري) ستشكل خطوة تصعيدية ملموسة في المنطقة، إلى تلك الدرجة التي ترى إيران نفسها ملزمة بالرد عليها. وهو ما أكده رئيس المجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية في إيران، كمال خراز في تصريحاته الأخيرة، التي اعتبر فيها إنشاء هذا النوع من التحالفات بمثابة خطأ استراتيجي، وحمّل ما أسماها «دول التطبيع» العواقب الوخيمة لخطوة كهذه.
لم تكن الرياض رقماً صعباً في وجه الكيان الصهيوني، فالروابط التي جمعتها مع واشنطن فرضت على السعودية دوراً محدداً في الصراع العربي «الإسرائيلي» إلى تلك الدرجة التي لم تتوقع شعوب المنطقة أن تلعب أي دورٍ إيجابي في هذه المعركة، مما يجعل احتمال ذهاب السعودية نحو تطبيع مع الكيان أو نحو بناء أيّ من أنواع التعاون العسكري والدفاعي معه وارد الحدوث، لكن السعودية التي تدل كل المؤشرات حتى اللحظة أنها لم تحسم هذه المسألة بعد، تجري مقاربة مختلفة لهذه المسألة، وهي ما تردنا إلى أهداف واشنطن من هذه الزيارة. فالمطلوب من السعودية تثبيت أقدامها وبشكلٍ واضح في أحد الخندقين المتواجهين، ويدرك أصحاب القرار في المملكة السعودية أن الدعوات لا تزال مفتوحة، فإما الذهاب وراء واشنطن، وإما تثبيت موقع للرياض في معسكر دول الشرق حيث تنتمي، ففي نفس الوقت الذي تقدّم الولايات المتحدة بعض الامتيازات، تقدم أيضاً ما يفوقها من المشكلات، ونرى في أجندة زيارة بايدن هذه مثالين واضحين على ذلك.
المثال الأول: يُرى في التحالف الذي تأمل واشنطن تثبيته بين الكيان الدخيل ودول الخليج، والذي سيحول هذه الأخيرة إلى هدف إيراني، حتى وإن وافقت واشنطن على الانخراط فيه عسكرياً، فتهديد إيران عبر تحالفات من هذا النوع سيشكل خطراً وجودياً ينبغي التعامل معه من قبلها، في المقابل، تقدمت كلّ من روسيا والصين بمبادرات تهدف لنزع فتيل التوتر في الخليج، وعلى الرغم من أنها مبادرات منفصلة، لكنها تشترك في جوهر واحد، وهو البحث عن نقطة التوازن بين دول الخليج العربية من جهة، وإيران من جهة أخرى، ليصبح هذا التوازن ضامناً للاستقرار والاحترام المتبادل، وخصوصاً بعد أن يشترك الطرفان المتخاصمان بآليات مراقبة مشتركة، وتنسيق أمني من شأنه رفع حالة الألفة بينهم بهدف تبديد العداوة التي حرصت واشنطن والكيان الصهيوني الإبقاء عليها.
أما المثال الثاني: فهو موضوع تسعير وإنتاج النفط، فالتجربة سمحت للسعودية أن تشهد لحظات فضّلت فيها الولايات المتحدة التلاعب بأسعار النفط، حتى لو جرى ذلك على حساب اقتصاد دول الخليج، في المقابل، نجحت روسيا ضمن إطار أوبك+ في إيجاد تفاهمات مجدية مع السعودية، تمكّن الأخيرة من الحفاظ على مصالحها من جهة، وتسمح لها بتصريف إنتاجها في أهم الأسواق المستهلكة في آسيا من جهة أخرى.
قد لا تنتقل السعودية قريباً وبشكل حاسم إلى خندق دول الشرق، لكنها وفي الوقت ذاته لن تكون قادرة في هذه اللحظة بالذات أن تقبل الالتماسات الأمريكية كاملة، فالسعودية تبحث بالفعل ومنذ زمن عن تفاهمات مع إيران ويعمل البلدان بشكل جدّي، وتحقيق خطوات أولية في هذه المسألة سيدفع السعودية لتأخير تورطها في تحالفات مشبوهة مع الكيان، أو تأخير الإعلان عن أي نوع من أنواع التعاون العسكري والأمني معه، وخصوصاً أن الكيان والولايات المتحدة يعيشان حالة خطيرة من عدم الاستقرار السياسي، الذي تفرض حالته الضبابية على أي شريك محتمل التريث قليلاً حتى تتضح الرؤية أكثر. وربما أكثر ما يمكن أن يقلق السعودية في هذه اللحظة بالذات هو أن واشنطن لا تملك استراتيجية ثابتة وتحديداً في منطقة الشرق الأوسط، وشكلت الاستدارة الأمريكية اتجاه السعودية مجدداً موضوعاً خلافياً في داخل مراكز القرار الأمريكي، مما قد يشكّل تهديداً جدياً أمام أية اتفاقات أو تعهدات يقطعها الرئيس الحالي. فلا يستبعد حكام السعودية أن تلقى أية اتفاقيات موقعة مع بلادهم ما لاقاه الاتفاق النووي الإيراني، لتجد نفسها في مأزق إقليمي لا يمكن الخروج منه دون خسائر ملموسة.
سوف يترتب الكثير على استجابة السعودية لعرض واشنطن، فإذا انخرطت السعودية بالشكل المطلوب أمريكياً سنشهد موجة جديدة من التصعيد، وتعقيدات اقليمية قابلة للتحول إلى مواجهات عسكرية خطيرة، أما إذا لم تستجب الرياض، فستكون الفرصة مفتوحة مجدداً لإنشاء «نظام فعّال للأمن الجماعي» كما تسميه موسكو، هذا إلى جانب حرمان واشنطن من الخدمات الخاصة والاستثنائية التي قدمتها الرياض تاريخياً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1078
آخر تعديل على الإثنين, 11 تموز/يوليو 2022 14:02